القاهرية
العالم بين يديك

عادة الرافعي في الكتابة

248

بقلم/ سالي جابر

“أنا لا أعبأ بالمظاهر التي يأتي بها يوم وينسخها يوم آخر، والقِبْلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويُمكِّن لفضائلها وخصائصها في الحياة؛ ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا، ثم إنه يخيل إليَّ دائمًا أني رسول لغوي بُعثتُ للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه …”. الرافعي

كي تخرج كتابة الرافعي بذلك الشكل والبيان والسحر الذي نراه؛ فلابد أنها تمر بمراحل عدة مدروسة ومحكمة جيدة، لم يحظَ الرافعي بتعليم عالي، لكنه ورث عن والده مكتبة زاخرة بنوادر الكتب، لم يتعود الرافعي أن يفتش عن موضوع للكتابة، بل ما كان يدفعه للكتابة دافع يجده في نفسه، ولكل مقال من مقالاته سبب حدث بالفعل دفعه للكتابه، أما حينما ألتحق بالرسالة كان يحدد موضوعًا للكتابة، والكتابة عندهتمر بمراحل عدة: عمل الذهن، عمل النفس، عمل الفن والصناعة فهو فنان يخضع أذنه لكل ما يسمع، ويخضع عيناه لكل ما يرى، يسخر حواسه لتكوين مادة للكتابة، بحمل في جيبه ورقة وقلم ليخط كل ما يجول برأسه، فيكون عناوين، خواطر. مقالات.
فإذا عقد العقدة ورتب موضوعه ترتيب الفصول في الرواية طوق وريقاته ساعة ليرجع إلى كتاب من أئمة البيان العربي ليعيش في بيئة عربية فصيحة اللسان، وكان خير ما يقرأ كتب الجاحظ، ابن المقفع، الأصفهاني.
كان يزعجه أن يمر النسيم على صفحة خده، عندما تهب نسمة إلى جانبه يكف عن الكتابة.
كان- عليه رحمة الله- يهتم كثيرًا بمعاني الكلم والبيان، والموسيقى اللغوية التي تصنعها كلماته، يُسمع أذناه ما كتب، وإذا لم تقع الكلمات على أذنيه موقع الموسيقى من عمل الموسيقار؛ فتح المعجم وبحث عن كلمة قوية لها تأثير الموسيقى على الأذن، مخدر اروح أرهقتها كلمات زائفة بموسيقى الكلم المغلفة بمعنى له عمق وتأثير.
لديباجة الكلمات عنده وسحرها معنى خاص، وفي بعض الأحيان كان يتوقف عن الكتابة ثم يفتح أي كتاب من مكتبته ثم يغلقها ثم يكمل الكتابة، فما كان هذا منه إلا ليجد الكلمات التي ترضي غرور الكاتب الذي بداحله، والقارية الذي يتقمص دوره لدقائق، وتلك كانت لازمة من لوازمه تعودها، وتعود أن يجد بها مفتاح القول.
وإن تأبَّي عليه القول مرة؛ فطال الصمت يمد يده على مكتبته إذ به يحمل القاموس المحيط فقال له كاتبه:” إن هذه الأشياء مثل المفاتيح العصبية…” قال له:” صه، هذه الكلمة التي أريدها: المفاتيح العصبية” ثم طوى الكتاب وعاد إلى الإملاء.
لم يكن الرافعي مدخنًا لكنه كان يشرب سيجارة أو اثنتين في مجلس كتاباته الطويل. ثم تبقى كما هي في درج مكتبه شهرًا كاملًا إذا لم يظهر زائرًا، وكان يحتسب المنبهات مثل القهوة والشاي وهو يكتب، كان يكتب مقالته خلال أسبوعًا كاملًا.
فقال في أحد مؤلفاته:” من عادتي في كتابة الفصول التي تنشرها الرسالة أن أدع الفصل منها تقلبه الخواطر في ذهني أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، وأترك أمره للقوة التي في نفسي، فتتولد المعاني من مل ما أرى وما أقرأ، وتمثال من ههنا وههنا ويكون الكلام كأنه شيء حي أُريد له الوجود فوجِدَ ثم أكتب نهار الجمعة. ومن ورائه ليل السبت وليل الأحد كالمدد من وراء الحبيس إذا نالتني فترة أو كنت على سفرة أو قطعتي عن الكتابة شيء مما يعرض.
فكان الرافعي عندما يكتب مقاله يخضع له الذهن ويجهد الأعصاب خلال أسبوعًا إلى أن تصل إلينا بهذا الجمال والبيان، وعلى الرغم من هذا فقد أنشأ رسائل الأحزان في بضعة وعشرين يومًا، وكتب حديث القمر في أربعين، وكتب السحاب الأحمر في شهرين.
وقال قائل من خصومه إنه يقاسي في هذه الكتابة ما تقاسي الأم من آلام الوضع
وقال الرافعي يجيبه:” أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها…وعلي نفقات القابلة والطبيبة متى ولدت بسلامة الله!”

قد يعجبك ايضا
تعليقات