للكاتبة الهنغارية ليفيا كوفايشي
ترجمة: د. إيمان بشير ابوكبدة
استيقظت هذا الصباح، وينتابني شعورا بالحزن العميق، فاليوم تحل الذكرى السنوية الأولى لوفاة زوجي الحبيب جوزيف.
آه، كم كنت أخشى حلول هذا اليوم….
منذ وفاته وشعور باليتم والوحدة يسيطران على لفقدانه. دائما كنت أخاف من فكرة الفراق.
جوزيف، لم يكن بالنسبة لي الزوج الحبيب فقط، بل كان الأب الحنون، والابن العطوف، و الصديق المخلص.
أخذ شريط ذكرياتنا معا يمر أمامي عيني…
كنت حينها في السادسة عشر من عمري، عندما تقدم جوزيف بطلب يدي للزواج منه. كان مر عام على وفاة زوجته الأولى، ابنة عمتي ساندرا، التي تركته وحيدا مع طفلهما الرضيع مايكل.
في بداية الأمر رفضت فكرة أخذ مكان ابنة عمتي التي كنت أحبها. إلا أن والدتي نصحتني بإعادة التفكير في العرض قبل الرد عليه بالرفض النهائي.
جلست وحيدة بين جدران غرفتي، فأخذتني الذكريات إلى حفلة زفاف جوزيف و ساندرا. كنت في الثامنة من عمري حينها.
كانت الورود تزين قاعة الفرح، بينما أنغام الموسيقى الهادئة توحي بأجواء رومانسية تهز المشاعر، أخذ المدعوين يتوافدون كأنهم قادمون من عالم الأساطير بثيابهم المزخرفة والغالية.
كانت ساندرا غاية في الجمال بفستانها الأبيض المرصع باللؤلؤ والألماس. أما هو فقد كان وسيما، وجذابا، وأنيقا في بذلته السوداء. في تلك اللحظة تمنيت من السماء بأن تمنحني زوجا يشبهه عندما أكبر. و تشاء الأقدار السماوية بأن تحقق أمنيتي بعد مضي تسع سنوات.
مساء يوم الأحد عاد جوزيف لمعرفة ردي النهائي على طلب الزواج.
“أنت ترغب في الزواج مني لحاجتك إلى زوجة ومربية لطفلك الصغير، بينما أنا أرغب في الزواج لأجل الحب و الأمان”، أخبرته بصراحة بكل مخاوفي.
“عزيزتي فيكتوريا، أنا أتفهم عدم تقبلك لفكرة زواجنا، أرجوك امنحني فرصة حتى أعلمك كيف تحبيني؟ فأنا سأفعل المستحيل لتكوني سعيدة معي. كما أعرف مدى حبك لمايكل الصغير، ثقي أنك ستكونين أم رائعة وحنونة، صدقيني معا نستطيع تكوين أسرة سعيدة و مرتبطة”، رد جوزيف برقة على كل مخاوفي.
بعد مرور أسبوعين، أقمنا حفلة زفافنا في أضيق الحدود، نظرا لحالة الحداد التي كانت تمر بها هنغارية بعد وفاة القيصر.
فلم ارتدي فستاني الأبيض الذي طالما حلمت به. لكن عوضا عنه قدم لي جوزيف باقة جميلة من الورد البيضاء التي قطفها بنفسه من حديقة منزله.
الآن، وبعد مضي خمسين عاما على حياتنا معا، أستطيع أن أقول بصدق، نعم لقد علمني كيف أحبه وأحترمه.
فقد اكتشفت بعد زواجنا، كم هو رجل رومانسي و حنون. كان يرسل لي يوميا باقة من الورد البيضاء مع بطاقة صغيرة مكتوب عليها بخط جميل، ” هذه الورد الجميلة إلى أجمل وردة في حياتي، شكرا على كل اللحظات السعيدة التي اقضيها معك” زوجك المخلص جوزيف.
لقد كان الصخرة التي تحمي عائلتنا الصغيرة أمام الأعاصير الهائجة. فبعد وفاة ابنتنا الوحيدة في الرابعة من عمرها، كاد حزني عليها يحطمني، لولا وقوفه إلى جانبي بحبه و رعايته واهتمامه حتى استطعت تجاوز هذه المحنة.
و مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، تعرض جوزيف لهزة مالية عنيفة أفقدته كل ثروته. مما اضطرنا لبيع منزلنا الكبير، الانتقال إلى منزل صغير في الريف حتى نبدأ حياة جديدة.
وبعد عدة سنوات من المعاناة الطويلة من الفقر والعمل المتواصل أصبح لدينا ما يكفي من المال لشراء منزل كبير تحيط به حديقة واسعة، التي كرس جوزيف معظم وقته للعناية بها، حتى أصبحت جنة الرب على الأرض.
وفي تلك الفترة تزوج مايكل و أهدانا أجمل حفيد.
ألقيت نظرة من نافذة المطبخ على الحديقة للمرة الأولى منذ رحيله عني، فهي تذكرني بغيابه المؤلم و تزيد من أحزاني.
الأن لابد على الإسراع بالصعود إلى غرفتي و ارتداء ملابسي قبل وصول مايكل حتى يرافقني إلى المقبرة. فجأة لمحت شيئا يزدهر من بين النباتات الميتة في الحديقة. بسرعة فتحت الباب ومشيت ببطء نحو حوض الورد.
كانت هناك وردة بيضاء رائعة الجمال تطل بخجل من بين الأعشاب الجافة و القاسية التي زحفت على الحديقة منذ رحيله.
انحنيت نحوها، أشم عطرها الذي خدرني واشعرني بوجود جوزيف بجانبي، عندها عرفت إني عثرت عليه مرة ثانية. فبدأت السعادة و الراحة تسكن روحي.
وعندما وضعت الوردة الاخيرة لهذا الصيف على ضريحه، وعدته بأن أكرس ما تبقى من حياتي للعناية مجدد بحديقته الغالية، حتى نجتمع مرة ثانية في حديقة ورد البيضاء السماوية.