القاهرية
العالم بين يديك

الرافعي ليتني ما عرفته

122

بقلم محمود أمين

هذه سيرتك أستاذي تأتي أمامي كما يلوح شهاب لمرئ متأمل، ولا أملك إلا كلمات أنثرها على هذه الذكرى لعلها تشفع لي حين اللقاء. ولا يعلم خلجات هذه النفس إلا خلقها مما أصابها من حب لك، وتلقٍ لكلمات منك باتت ترقص في أذني، ويناجي مريدًا للأدب وتفتح له آفقًا لم تكن لتُفتح له لولا أنه طرق بابك أستاذي.
يظن القارئ أن الكتابة الذاتية يجب أن تبدأ بفلان الذي عاش في مكان كذا، ونبغ في مجال كذا، واستقر جسده في أرض كذا، وكان مذهبه مذهب فلان؛ وإن هذا وربي لتاريخ يكتب مرة واحدة، وليس بالآداب التي ينبغ فيها القلم البيغ، والأدباء لا يموتون فحق علينا ألا نجحد حقهم فهم بين الناس أحياء بكلمات باتت يتردد صداها في كل مكان.
لم أكن يوما قارئًا عاديًّا حين أمسك بإرث تركه لنا الأستاذ الرافعي؛ وهو الذي فرض على العقول بيانًأ لا يشبهه بيان، من صدق الحديث وقوة الطبع وجمال ورشاقة الألفاظ ودقة المعاني المستخدمة. وهو يفرض على جليسه أن يكون صاحب ذهن صافٍ وقريحة متقدة وموسوعة لغوية ثرية حتى يتمكن من فهم المراد.
وإن كنتَ ممن يتناول الكتب كمن يعدد الصفحات ويتجاوز الفقرات؛ فإنك متجاوز الكتاب بالجملة، فللرافعي حرم لا يتناول إلا بالخشوع والسكينة فتلك خصيصة اختص بها الأستاذ إرثه.
يقول الأستاذ الرافعي في أوراق الورد: (ولقد يكون في الدنيا ما يُغني الواحد من الناس عن أهل الأرض كافّة.. ولكن الدنيا بما وسعت لا يمكن أبدًا أن تغني محبًا عن الواحد الذي يحبه! هذا الواحد له حساب عجيب غير حساب العقل.. فإن الواحد في الحساب العقلي أول العدد.. أما في الحساب القلبي فهو أول العدد وآخره .. ليس بعده آخـِـر إذ ليس معه آخـَر).
اقرأ ما نسخته مرة ستجد حلاوة ومرتين تجد لذة وثلاث تجد راحة وسكينة وكل كلامه على النحو الذي أقول فكلامه في جديد دائم لا يمل منه السلامع ولا ينال السأم من درسه.
وقد نبغ من دقت مهنته وكانت في أدق تفاصيل العلم، وقد دق الرافعي في كتابته حتى أنه أصبح كالفنان الذي ينظم مقطوعة موسيقية بين الآلات المستخدمة؛ فلا يكتب لأنه يكتب بل يكتب كأنه يستمتع، ويسترسل لا ليملأ بياض صفحته بل ليترنم كالبلبل الشادي.
رحمات الله تتنزل عليك أستاذ العزيز، وسلام من الله عليك.

قد يعجبك ايضا
تعليقات