القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

تقبيل العيد

105

متابعة عبدالله القطاري من تونس

نعني به في صفاقس المعايدة . نقول فلان قبّل على دار جدّو أو عمّو أو خالو أو عمتو أو خلتو أو دار أختو والا خوه وحتّى دار أنسابو إلخ …كانت العيد فرصة لصلة الرحم والتواصل تتجاوز الدائرة الضيقة للعائلة وهذا من مزايا العلاقات العائلية قبل ظهور وسائل الاتصال التكنولوجية و نيابتها في المعايدة بالهاتف و المسنجر والسكايب والواتساب ….
ونحن الأطفال نحبّ العيد لأنّه يمنحنا فرصة لمغادرة الغابة حين كانت بصفاقس غابة و نروحو للبلاد ( وسط المدينة) و نزورو عماتنا وخالاتنا في الثنايا ( الطرقات المختلفة بصفاقس) وهذا يحدث في البداية برفقة الكبار في سيّارة و نترصو فيها كالسردينة أو في الحافلات ( الكيران) أما التاكسي فمظهر للبذخ لا نقدر عليه من مصروف العيد الا ما رحم ربي . حتى إذا شببنا قليلا عن الطوق سمحوا لنا بخوض المغامرة بعد توصيات و نصائح تتعلق بآداب الطريق وآداب الزيارة( التثبت من الطريق يمينا وشمالا ، عدم إخراج الرأس من نافذة الحافلة ، ترك المقعد في الحافلة للكبار ، تحسس الجيب باستمرار حفظا للنقود ، الجلوس بأدب في أي دار ندخلها، شرب المشروب على مهل دون أصوات مزعجة، ترك قليل من المشروب في الكأس ، أخذ قطعة واحدة من الحلويات إلا إذا ألحّت صاحبة البيت و حلفت ، مسح الفم ( الشوارب ) بعد شرب المشروب ، عدم لمس أي شيء ، تجنب التجشؤ ( التكريعة ) ، تجنب الضّحك بصوت عال ، احترام الكبار وتجنّب ممازحتهم ، تجنّب الخصام مع المرافقين في دار الناس) ويجب علينا الالتزام بكل ما سبق وغيره لأن تقرير الزّيارة يصل من بعضنا البعض أو من الّذين زرناهم للتّقبيل ( المعايدة) بعد فترة من العيد . وهذا التقييم تُحدَّد في ضوئه إجراءات العيد القادم وربما يصدر أمر بالمعاقبة يُنسَى بطول المدة من عيد لآخر أو من عام لآخر …
كنا محظوظين بسكنى البعض من أهلنا في ثنايا مختلفة ( ڨرمدة والأفران و عطية / منزل شاكر والمهدية والحفارة) بعضها نصل إليه مشيا و أغلبها نصل إليه بالحافلة . ولا بد من محطة استراحة بالبلاد / وسط المدينة لجولة في البلاد العربي و وزيارة الماناج ( ألعاب ومسابقات : لعبة الماصوّات ( الظروف ) وهديّة قد لا تناسب المبلغ المدفوع ، لعبة الحلقات الخشبية الّتي تُرمى من بعيد لتعلق في عنق زجاجة شروبو مثلا ؛ لعبة الثلاث ورقات ( كحلة _ حمراء) من أوراق الشكبة و رهان أغلى من سائر الألعاب و غالبا ما يربح صاحب اللعبة لخفّة يده ، لعبة الرّماية بالبندقية وهذه تحتاج إلى خبرة قلما نتمتع بها ، لعبة سطل الماء والكأس في قعره : يسقط الدورو (5 مي) من فوق سطح الماء فإذا استقر في الكأس فاز اللاعب وإلا خسر وكثيرا ما يخسر اللاعبون) . وكان يلفت انتباهنا في اليوم الثاني للعيد عربات مدفوعة تبيع خبز العيد الذي لم يُبَع بثمن أقل ومُغرٍ .
كم كان مصروف الواحد منا ؟ كنا نحصل في أول عهدنا بمصروف العيد على نصف دينار ورقة مالية أو نقودا صفراء .وهي كافية في نظر أهلنا ولهم في ذلك حكمة ووجهة نظر ( الفلوس ماهياش باهية للصغير كثرتها تحلّو عينيه وتفسدلو ربايتو ) ويحب علينا أن نموت ونعيش في ذلك المبلغ و نستعين في حسن التصرف في مصروفنا بقطع مسافات طويلة على القدمين وكم كنا نعاني من الأحذية الجديدة التي تضرب عقب القدم و تؤلم كثيرا ولكننا نتم مهمتنا بسلام رغم كل شيء .
ماذا يقدم لنا في زياراتنا ؟
تختلف الأطباق المقدمة باختلاف من نزورهم اجتماعيا و معيشيا و تحضّرا .
وتختلف نوعية الحلويات كذلك : حلو دياري دون لوز وحلو باللوز حتى طريقة العرض والتقديم كانت تختلف وتظهر الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين العائلات و كم كانت الطريقة العصرية تضايق لأنها تجبر هؤلاء الصغار على سلوكات فيها حذر شديد . والطفل يرتاح لمن يتبسّط معه في الاستقبال و يحرّره من قيود البروتوكول واللياقة بصورة قسرية . وحينما نزور الكبار من أقاربنا الذين يجدون راحتهم في الجلوس أرضا كنا نجلس مثلهم و تتكرر مشاكلنا مع أحذيتنا إن نزعناها أو يختار بعضنا الاتكاء على الجنب و القدمان خارج المفروش ( زربية أو كليم ) وتلك الجلسة عربي وكما يقولون ( النبي عربي يحب القعظة عربي) و الدار التي فيها راجل كبير أو امرأة كبيرة كانت أجواؤها تختلف ولها نكهة مختلفة عالية الجودة .وكانت أسئلتهم طريفة و فكاهية أحيانا وكما نقول فدلكة فينو . وكم يحلو لنا أن يقدم لنا من هؤلاء الرجال الكبار كأس شاي طرابلسي و الشاي في عائلاتنا ممنوع على الأطفال ! وكنت أمتنع من باب الأدب عن شرب الشاي و أنا أشتهيه لأن الفرصة قد لا تتكرر !
نعود إلى ديارنا محمّلين بذكريات يوم جميل و حسرة على نهاية العيد و العودة إلى المدرسة ( حبس بوك احمِدْ) . ومن الغد نذهب إلى المدرسة بملابس العيد يوما واحدا ثم تخبّأ للعيد الموالي أو لحضور مناسبة سعيدة أو أي مناسبة تحتاج إلى لباس جديد . كنا نسعد لذلك وكلما حافظت ملابسنا على رائحتها كلما أحسسنا بأن العيد مازال يعيش معنا ! كم كانت أحلامنا صغيرة ولكن أحاسيسنا كانت كبيرة !
هل تغيرنا أم تغير العيد؟
نمط الحياة تغير و تلك هي سنة الحياة . الطفل يكبر و تتغير مشاعره وأفكاره ورؤيته للحياة من حوله والعيد يعود كل عام والناس قد لا يعودون ..كبرنا و تزوجنا و عشنا تجربة مغايرة مع أبنائنا واكبت تغير الحياة الاجتماعية والاقتصادية . اختلفت الليلة عن البارحة !
وهكذا تنتهي رحلة الذكريات بانتهاء أيام العيد الصغير ( عيد الفطر) .فإلى لقاء قادم مع أجواء عيد الإضحى بين الأمس واليوم إن شاء الله.
كل عام وأنتم بخير .دمتم في رعاية الله وحفظه .

 

قد يعجبك ايضا
تعليقات