القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

المنهج القرآني في رواية التاريخ

117

د.إسلام إسماعيل أبوزيد
عضو اتحاد المؤرخين العرب

يمثل التاريخ الإسلامي جزءاً من العقيدة الإسلامية التي ظهرت بنزول القرآن الكريم، ولم يكن القرآن ليغفل الأحداث التاريخية، بل ملأت سور القرآن تلك الأحداث، والتاريخ الإسلامي لا يبدأ من بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ولا من تاريخ العرب قبل نزول الوحي؛ وإنما بدأ تاريخ هذه الأمة منذ بدء الخلق ومروراً بخلق آدم وهبوطه إلى الأرض، وقصص الغابرين، ولا يزال هذا التاريخ يمتد منذ البعثة وإلى وقتنا هذا، فكل حدث تاريخي موثق مرت به الأمم قبلنا هو لبنة في تاريخ هذه الأمة وبنيانها.
ولم يكن القرآن يذكر قصص السابقين بكل تفاصيله، بل يصطفي الله تعالى ما ينفع الأمة من الأحداث التي تحقق ما يعرف باسم فلسفة التاريخ، وهدفها ربط الواقع بالتاريخ والاستفادة منه عقدياً وسلوكياً واجتماعياً مع ربط هذا كله بالحنيفية التي رفع شعارها إبراهيم عليه السلام وورث لواءها المسلمون كما قال تعالى: { {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ} } [الأنعام: ١١]، وقال: { {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُجْرِمِينَ} } [النمل: 69].
وقال: { {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} } [الروم: ٩]. وفي حديث أصحاب الأخدود الذي رواه مسلم (رقم 3005/73) عَنْ صُهَيْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « «كَانَ مَلِكٌ فِي مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ…» » فيبدأ بقوله: «في من كان قبلكم» ليربط الحاضر بالماضي والأجيال المؤمنة ببعضها وليعرف أهل الحق أن هناك من سبقهم على الدرب ذاته فيرمقونهم بنظرة إلى الخلف ليروا فيهم قادة وعظماء ملهمين يدفعونهم في طريق الحق.
لقد أنتج هذا القصص التاريخي في القرآن والسنة أجيالاً من المؤرخين بلغت على حد قول حاجي خليفة في كتابه «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» ألف مؤرخ ومئتين، وهو ما يعضد القول بأن للقرآن نظرته المتميزة والخاصة إلى التاريخ، وهي نظرة لا تشبه نظرات الآخرين للتاريخ، فمن سبق المسلمين جعل من الأحداث التاريخية خدماً لعنصريته وتكريساً لعقيدته، ومولجاً لمدح بني جنسه فحسب، كما فعل اليهود بالتوراة والتلمود وغيرهما من كتبهم التي امتلأت عنصرية وتحريفاً.
فما هي مزية النظرة القرآنية لرواية التاريخ على غيرها؟ أولاً: أنها نظرة مستمدة من العقيدة والوحي: عقيدة الإسلام تقوم في الأصل على أن للإنسان دوراً في الحياة، لا يقتصر على بناء الأرض وعمرانها وتكوين الممالك والحضارات التي لا تلبث بدورها أن تسقط وأن تنهار، فهذه وظيفة تتشارك حشرتا النحل والنمل فيهما مع الإنسان، لكن الدور المنوط بالإنسان هو إقامة ملكوت الله في الأرض وتحقيق ألوهيته سبحانه، وبهذا ترى القرآن قد سالت أوديته بقصص السابقين.
نظرة الإسلام إلى التاريخ مرتبطة بالآخرة: فالتاريخ يبدأ من حيث بدأ الله تعالى الخلق وينتهي بيوم القيامة وهو يوم الحساب، وهذا ما يعطي انطباعاً بأن الإنسان خلق للحياة لا للموت وعليه أن يتحرك دائماً وألا تقعد به عقيدته، فالإنسان في الإسلام مسئول عن عمله في الدنيا، ثم مفتون في قبره، ثم يحاسب في أخراه على ما قدمه في الدنيا من ظلم أو عدل أو بناء أو هدم أو حق نصره أو باطل عاش في خدمته، { {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} } [البقرة: 281]، ولم يجبر الإسلام أحداً على اتباع نهجه بل دعاهم ورغبهم في اتباعه ووعدهم بالجنة، وتحدث عن التنوع فقال تعالى: { {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} } [الإسراء: 84]، وقال: { {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} } [آل عمران: 152]، ولكن وضَّح أن الغلبة في النهاية والعاقبة لمن أراد الآخرة وعمل لها، { {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} } [القصص: 83]، ومعلوم أن ربط العمل بالجزاء يمنح صاحبه دفعة إلى العمل والاجتهاد وهو ما فهمه الأوائل في دول الإسلام التي ما خرج جندها يجوبون العالم إلا لتحقيق العبودية وهدم حصون الشرك ومعاقله فكانوا والآخرة نصب أعينهم يعملون لا تغيب عن نواظرهم أبداً.
إن القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ لكنه قدَّم وقائع تاريخية ثابتة لا ريب في صحتها، ولم يعرض هذه الأحداث إلا لتتلمس البشرية فيها الرشد والهدى والصلاح، وهو المقصد الأسمى والهدف الأعلى من عرض القرآن لبعض الوقائع، وتبقى الكلمة الأخيرة التي ألقاها القرآن من خلال عرضه لبعض الوقائع أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للتقوى، والتمكين للمؤمنين لا لغيرهم، { {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} } [النور: ٥٥].
القرآن الكريم يشتمل على تاريخ كثير من الأنبياء وسرد قصص الأمم الماضية فضلا عن بيان العقائد التي يحتاج إليها الإنسان والعبادات المطلوبة منه، رغم أنه لا توجد فيه كلمة ’التاريخ‘ ومشتقاته، فقد استخدم كلمات أخرى تعبر عنها كـ ’النبأ‘ و’القصة‘و’الحديث‘ وغيرها، كما قال الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) {سورة المائدة – 27}، وقال أيضا: (نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَیۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَاۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ) {سورة يوسف- 3}، وقال في موضع آخر (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ) {سورة النازعات- 15}، والأمثلة على ذلك تطول. كلمة القصص تدل على اتباع الأثر، كما قال الله تعالى: (فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰۤ ءَاثَارِهِمَا قَصَصࣰا) {سورة الكهف- 64}.
ونقول أن “فن مهم لا يهمل، واتخذ المؤرخون عادة ثلاثة مناهج مهمة لدراسة التاريخ, أولها، سرد الوقائع كما حدثت في الأزمنة الماضية بدون إلقاء النظر إليها والتمحيص عنها، وثانيها تحسين القبح وتزيين المشوه منه لتعظيم الشعوب والبلاد، وثالثها دراسة التاريخ وسرده لمصلحة البشر دون النظر إلى حدود البلاد وأسماء الشعوب، فيميز الخير من الشر ولا يميل إلى جنس دون آخر، ولا إلى شعب دون شعب، فهذا الثالث هو الذي تتفق عليه النظرية التاريخية التي يقدمها القرآن”.
يمتاز أسلوب التاريخ في القرآن عن الكتب التاريخية تماما، لأنه قد اعتنى بذكره إدراك عبره ومواعظه من أجل ترسيخ إيمان المؤمنين في نفوسهم وتحذير المنافقين والمشركين من سوء أعمالهم.
تاريخ التأريخ عند المسلمين :
لما مضى عهد الرسول والخلفاء الراشدين من بعده دوّن الناس أخباره عليه السلام وروو أنباء مبعثه وهجرته ومغازيه؛ فكانت اللبنة الأولى مع تدوين السيرة النبوية في القرن الأول الهجري، ولم تَعدُ في هذه المرحلة كونها نوعا من رواية الحديث، وكان أول من وضع في ذلك كتاب عروة بن الزبير بن العوّام، ثم تلاه أبان بن عثمان بن عفان، إلى أن بلغ فن السيرة أوجه في كتاب ابن إسحاق (85هـ – 151هـ).
في القرن الثالث الهجري نبغ فيه كثير الشعراء والكتاب والمؤرخين واللغويين والنحاة والمحدثين والفقهاء. فتوطد علم التاريخ العربي الإسلامي وتأسس منهج كتابة التاريخ الإسلامي من حيث الاعتماد على التسلسل الزمني وظهرت المؤلفات المتخصصة ككتب التراجم والطبقات المتنوعة كطبقات الادباء والاطباء و الرسل والملوك و ظهرت ايضا الموسوعات التاريخية الكبيرة وشهد ظهور حركة الترجمة والتطور الحضاري الذي حصل في العصر العباسي الأول وامتلك المؤرخون خبرات اظافية جعلتهم أكثر عمقا في النظرة التاريخية لمختلف الحضارات وهذه المرحلة هي المرحلة التي استقر فيها علم التاريخ مع نشاة التدوين التاريخي المنظم.
عاش في هذا القرن من الشعراء أمثال البحتري وابن الرومي وابن المعتز، ومن الكتاب أمثال الجاحظ وابن قتيبة الدينوري، ومن النحاة أمثال المازني والزجاج وثعلب، ومن اللغويين أمثال أبي حاتم السجستاني والمبرد، ومن المؤرخين أمثال البلاذري وابن طيفور واليعقوبي وأبي حنيفة الدينوري، ومن أبرز رجال هذا القرن رجلان ممتازان شامخان وهما البخاري صاحب الجامع الصحيح والطبري صاحب التفسير الكبير وكتاب تاريخ الأمم والملوك، وكلاهما من كبار المحدثين.
وقد كان التاريخ في نشأته عند العرب لونا من ألوان رواية الحديث، ولما اتسع نطاقه، وتكاثرت مادته، وتعددت فروعه، استدعى الأمر وجود نوع من التخصص، فاقتصر بعض المؤرخين على رواية الحديث، وتجرد فريق آخر منهم لجمع الأخبار ومعرفة الحوادث السالفة، وصار يطلق على المتخصصين في ذلك لفظة الأخباريين، وكان الواقدي وابن إسحاق من الذين انتقلوا من الحديث إلى الأخبار، وفي ابن جرير الطبري عاد التياران إلى الالتقاء، فالطبري محدث كبير وأخباري من الطراز الأول، وتوفر هاتين الخصلتين في الطبري.
و لقد ساق محمد ابن جرير الطبري (225-310)، كتابه تاريخ الرسل والملوك في طريق استقرائي شامل، بلغت فيه الرواية مبلغها من الثقة والأمانة والإتقان. أكمل ما قام به المؤرخون اليعقوبي، والبلاذري، والواقدي، وابن سعد، ومهّد الطريق لمن جاء من بعده المسعودي وابن مسكويه، وابن الأثير وابن خلدون.
وكان كتاب البداية والنهاية لصاحبه أبي الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير (701هـ – 774هـ) على طريقة ابن جرير وحقق في أحاديثه كما فعل في كتابه التفسيير.

قد يعجبك ايضا
تعليقات