القاهرية
العالم بين يديك

قهـــــــوة بلـــدي

495

بقلم السيد عيد

عندما كنت صغيراً كان يومي مقسما بين مشاهدة أفلام الكارتون الملونة واللعب والنوم وحلمي آنذاك أن أصبح كالكابتن ماجد، كبرت ومر أربع عقود من حياتي واختلف تقسيم يومي، ما بين العمل والنوم واحتساء القهوة حياتي أشبه بقطار أعمي لا يتوقف مهما قابل من عوائق، ولما أصابني الملل وأحسست أن حياتي فاترة ، وأن كل يوم يعيد سابقه ، ترنحت بقدمي وأنا أجر كرسي بيدي ثم سكنت قهوة بلدي في آخر الشارع وسرحت بعقلي مع صورة الست أم كلثوم التي تقبع فوق رأس الأستاذ علي ، وتخيلتها وهي تغني فات الميعاد وكأنه فات الميعاد علي جلوسي علي القهوة بعد بلوغي هذا العمر ،لقد وطأت قدماي القهوة البلدي وإذ بعالم ساحر ملئ بالخفايا التي لا تراها بعينك بل تلمس روحك وقلبك ، اترك نفسك لها فقط ، ستجدها تطفو بروحك إلى  حيث لا تتخيل ، فإن أتيت لها مهمومًا  أزالت عنك همك، وإن أتيت لها فرحًا  زادت على فرحك أضعاف مضاعفة، وإن أتيت لها منهكًا مرهقًا  .. تراها ذهبت بك إلى  حيث تشعر بالراحة والهدوء وراحه البال !!.
أنت  الآن في حضرة قهوه بلدي !!.

في منتصف القهوة يجلس محمد وأحمد  وحسين ومدحت مع لعبة الدمينو ، وأتأملهم حينما يغمرني الملل ، وحماسهم ينعكس على قلبي حتى أظن أنهم يلعبون على بطولة العالم ، ومن يفوز كأنه حرر الأقصى ، ورغم أني أحترم  شغفهم المبالغ فيه وأشفق على المهزوم إلا أن صوت ارتطام قطعة الدومينو  بالمنضدة يستفزني ، فصداها يسقط على أذني كمدفع في حرب .

وصوت أحجار النرد تتبعها ضحكة عالية متحشرجة تكشف عن أسنان خربه لتقول بحماسه : 15 يا معلم ..
أو : خشب يا باشا .. ولم أر في مرة جدالاً بينهما كجدال المبتدئين في رمي الزهر .

لقد لفت انتباهي جلوس الكثير من الشباب الذي من المفترض تواجدهم في مدارسهم وأعمالهم ولكن من الواضح للقاصي والداني أنهم من أساطير القهوة ، وتقريباً لا يرحلوا منها أبداً فعلاقة الشاب المصري بالقهوة البلدي، علاقة تاريخية أصيلة، تمزج بين الرغبة والخوف، الرغبة في دخول عالم المقاهي والاستمتاع بممارسة اللا شيء، والخوف من ذلك العالم الغامض. يهرب الطفل الذي شارف على أعتاب المراهقة من مدرسته ليجلس “على القهوة”، ليثبت فقط بجلوسه هناك أنه أصبح رجلاً.

والبعض الآخر يجلس ليهرب من منزله بمشاكله، وآخرون يجلسون لعقد الاجتماعات السياسية أو مناقشة القضايا الأدبية،
بينما أنا جالس أدقق النظر في هذا وذاك وإذا  برجل يتعدي الخمسين من عمره يتحدث عن الأسعار والغلاء والصحة والتعليم فوقعت كلماته على أذني كتغريد عصفور للحكومة ، وتقوس وجهي وهطل على ملامحي الخوف ، ولم يعد بوسعي أن أتركه، صدقت المقولة أن القهوة شبه السياسة طعمها مر مهما أغرقتها سكر ، لأجده ينتبه لي ويقول
ازيك يا أستاذنا .

الحمد لله .

تأملت فنجان القهوة الراقد على المنضدة أمامه وتفاعلت عيني مع بخار الماء وهو يتلوى صاعداً إلى السقف ثم أردفت متردداً :

هرشت برأسي واحمر وجهي خجلاً ثم التفت حيث القهوجي وبصوت أجش : واحد قهوة يا عبودة .

قد يعجبك ايضا
تعليقات