القاهرية
العالم بين يديك

حارتي بين عهدين

456

بقلم/
سامح بسيوني

الشمس غربت؛ والشفق الأحمر يمتلأ في السماء. السكون يخيم علي المكان، نسمات الهواء الطلق؛ تنبعث بغرفتي، كانبعاث خرير الماء على جدول صغير يداعبه الماء، وصوت أمواج البحر تصدر أصواتًا من بعيد تذكرك بزمن جميل؛ كان الإنسان فيه هو الأنسان.

طار فكري، وخيالي إلى هناك حيث حارة طوغان فيها الأهل والجيران والأصدقاء حيث السلامة والراحة والوفاء والأمان؛ حارتي الآن بين عهدين عهد الطفولة والشباب؛ تذكرت ماض جميل فيه الحب والوئام فيه الخير والبركات تذكرت طفولتي بين أخت عطوف قامت على تربيتي، وتنشيئتي تذكرت الجيران وكم من مرات كنا نأخذ المعون ومتطلبات البيت من الجيران فكانت أختي الكبرى ترسلني إلي خالتي أم سعد؛ لأخذ بعض من الملح والزيت؛ لمستلزمات الطعام٠ يالها من أيام كان الجار سندًا للجار! تذكرت فرحتي ولعبي وسروري بين رفاق حارتي محمد ابن خالتي سعد وإيهاب ابن خالتي أم إبراهيم وصبية الحارة كميل ورزق وتوته وحسام؛ كنا نلهو ونلعب وكنا نغضب إذا خرجت الخالة أم صابر، وأم وائل يصرخان في وجوهنا؛ لأننا أزعجنا الجيران فنأخذ الكرة، ونذهب إلي الجمعية الزراعية حيث عمي عبد العزيز الرجل الحنون كان يتركنا نلعب بلا كلل أو ملل أو صراخ ياله من زمان يتلألأ في سماء مليئة بالصفاء النقاء.!

تذكرت في حارتي حب الجيران وكيف إذا غابت أختي يومًا، ولم تظهر للجيران تجتمع نسوة الحارة يحضرن لسؤال والاطمئنان! ياله من مشهد غاب الآن عن الحياة الإنسان كغياب الشمس في ظلمة الليل الحيران.

تذكرت فرحتنا، ونحن نستعد لقدوم رمضان كان الاستعداد له من بعيد، فعندما يأتي شهر شعبان نفكر أنا وصبية الحارة؛ لنصنع زينة رمضان، وننتظر على شوق حفيد أختي عماد؛ لأنه ماهر في صناعة الزينة والطيران٠ أتذكر فرحتنا في أول يوم لسحور في رمضان، حيث كان النوم في العاشرة مساء، ثم نستيقظ قبيل الفجر علي صوت أختي، وهي توقظ البيت، بل الجيران بصوتها الرخيم تنادي من منور لنا على أبنائها عبد الباسط وخيري ومحمد وكل الويل من تكاسل ولم يبادر بالاستيقاظ في الحال.

وكنا نجلس على طبلية مليئة بالخيرات والبركات وكنا نشم، ونتذوق طعامًا لا نحس به الآن. ونفرغ بسرعة رهيبة من الطعام، وبراد الشاي يغلو ما به من شاي فأسرع إلي أختي صباح؛ بأن تسعفني بصب وتلقيم الشاي. سرعة غريبة ودبيب في البيت والدار وصوت التواشيح يعلو من المذياع؛ تنذرنا بدنو الوقت والآذان؛ فنبادر للشرب في الحال والكل منشغل والإبتسامة لاتفارق الحال ونسمع صوت الفجر في الحال فنتوضأ لصلاة والذهاب إلي زاوية أم إبراهيم في التو والحال.

يالها من بركة تملأ البيت والحارة والمكان! ونجلس نحن صبية الحارة في سكون وهدوء واطمئنان ونسمع إقامة الصلاة من عم درويش؛ فنقف في الحال في صفوف خلفية نحترم الكبير والشيوخ والإمام فيتقدم للأمانة شيخ لا أتذكر اسمه، فيصلي لنا بصوت رخيم في هيبة وإجلال ونفرغ من صلاتنا إلي بيوتنا ونقف أنا والصبية في حارتنا نجتمع لبعض الوقت نخطط ماذا نفعل في أول ليلة من ليالي رمضان؟ ونخلد لنوم، ونستيقظ لصلاة الظهر ثم العصر نصليه في المسجد الكبير مسجد الرحمن، فنمكث لسماع الدرس من الشيخ فرج؛ يعلمنا من أحكام الصيام ونعود إلي البيت في إنتظار الفطار ونستمع إلي حلقة الشيخ الشعراوي في ترقب، وخشوع واحترام وابن أختي محمد يعقب على كلام الشيخ ويقول الله! وينزل أحمد حفيد أختي بحلة البلح والأكواب؛ لنذهب إلي زاوية أم إبراهيم؛ لنفطر فيها الصائمين، وابن أختي الكبير يشرف علي ذلك بالتمام والكمال ونرجع في لهفة؛ لنأكل مالذ وطاب؛ وقد امتلأت الطاولة بكثرة من الطعام فهذا طبق من كنافة أرسلته لنا الخالة أم سعد وطبق البليلة من خالتى أم فرج من خالتي أم هالة ملوخية وعيش مخبوز من خالتي أم إبراهيم وأم أشرف كمان.

ثم نفرغ وقد أعددت لنا أم شيماء لنا ألذ الحلويات، وأم عمرو عملت فطيرًا لا يتخيله إنسان؛ ونستعد لتراويح ونحن في سعادة ووئام يالها من ذكريات! ونحن ننتظر يومًا؛ تجتمع فيه العائلة للإفطار فتجتمع فيه العائلة للإفطار فتجتمع النسوة علي طبلية بها الأخت الكبري أم خيري وابنتها أم عماد،وباقي نسوة البيت؛ والرجال يجلسون علي طاولة، ونحن الصغار في غرفتنا الصغيرة؛ نجلس علي طاولة فيها الكثير من الأطفال عماد وأحمد وعلي ونعمة ومنال وصباح وهناء وعزة وشيماء وفاطمة ومني وإيمان؛ نجلس في حب ووئام ونتكلم، ونضحك ونداعب بعضنا بعض، ولا نقوم إلا بانتهاء الطعام يالها من أيام اختفت كاختفاء القمر وظهور المحاق! كنا ننتظر العيد بملابسنا الجديدة المتواضعه، ونحسب العدية قبل مجيئها بزمان ونحن علي شوق ننتظر أخي طلعت ومحمود، لأخذ العيدية في الحال.

الله الله على زمان كان المكان ملئ الخيرات والبركات! كان القليل من الطعام يكفي أهل البيت بل الجيران والضيوف في الحال والامكان٠ هكذا كانت الحارة في الزمان إرتباط بين الأهل والحيران؛ و مشاركة فيمَ بينهم في أفراحهم و أحزانهم كانوا يراعون مشاعر الجيران في وفاتهم؛ فالتلفاز يقف في الحال. كان الجار عونًا له في مصائب الدهر والزمان ؛فيقترض منه ما شاء دون كلل أو إحراج. كان الجار يمتاز بالأحسان وبالأكرام؛ فيذهب الأب والأم؛ لسفر ولا يقلق على عياله؛ لأنهم أمانة عند الجار. وها هو الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، وقد تغير الحال فذهبت إلي حارتي فلم أجد الإنسان ووقفت أبكي أمام الأطلال؛ متذكرًا. الإنسان وناديت علي خالاتي من الجيران أم السعد وأم أشرف و أم إبراهيم وأم الحسن وأم صابر، وغيرهن كثيرات وبحثت عن أصدقائي فلم أجد إلا الذكريات.

أين الأنسان في وقت تباعد فيه الإنسان عن الإنسان؟ لا سؤال ولا يجد ما لا يمد له يد العون والحاجة في الحال. أصبحنا في غابة القوى ينقض على الضعيف، والفريسة تفرح بفريستها؛ الجشع استولي على المكان وينتظر قافلة العزيز لتعيد له الجيران؛ لتعيد له الحب والوئام لتعيد له لمة لأهل والعائلات؛ لترجع إلينا صفة الإيثار والتكافل والاكرام؛ لتوقظ الإنسان؛ ليفتش عن جاره الجوعان وهو يعلم بأنه لا إيمان لمن نام وجاره جوعان ونام وهو مطمئن بالنعيم وغيره يعاني مرارة العيش والحرمان. ناديت على أهلي في البيت القديم، فلم أجد أحدًا في الدار وشرعت على بكاء الأطلال وهي تبكي على أرواح صعدت إلي بارئها مطمئنة كانت تراعي حق الأهل، والجيران فناديت على أم خيري،و أم عماد و عبدالباسط ومحمد فلم أسمع إلا الذكريات.

وعاد إليَّ فكري من بعيد بعدما سمع صوت الأذان من بعيد؛ معلنًا بدء نسمات جديدة؛ لاشراقة فجرجديد ؛ نأمل أن يعود الإنسان كما كان؛ فهل من أمل أن يعود الينا الإنسان ؟ يَصِلُ فيه الأرحام، ويسأل فيه عن الجار، ويمد يد العون، والمساعدة والنجاة فى الحال لكل سائل ومحروم. يؤثر فيه الغير على النفس ويمتاز بالكرم والعطاء ولو كان هو من أهل العوز والحاجة والرجاء فَمع زقزقة العصافير وشروق يوم جديد نخاطب البشرية بلغة الإنسان ونحثهم على البذل والعطاء، ونتلوا عليهم آيات بينات فيها من الحث والإثار. فنقول قول الحق. ( وَ يُؤثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصة وَ مَنْ يُوقَ شُح نَفْسِهِ فَأُوَلَئِكَ هُمْ الْمُفْلحون) فَهل من أمل أن يعود الإنسان إلي ما كان؟

قد يعجبك ايضا
تعليقات