القاهرية
العالم بين يديك

علمتني العجوز

222

بقلم إيمان عبد الرحيم 

جلست سمر شاردة الذهن تراقب حركة لا تراها، لتشعر بإحداهن تجلس بجوارها لم تلتفت،سارحة بهمومها لتبادرها المجاورة بالسلام، التفتت لترد تتمعن في تقاسيم ستينية ماتزال الملاحة فيها بادية، وما لبثت أن تبسمت ليشع في وجهها رضا يتدافع مع بؤس وفقر لايخفى، سألت:مابالك شاردة.
-فكرت سمر: هي لا تتوقع مني جوابا، أنا لا أعرفها، هي مصادفة تكررت للمرة الثانية فقط!
بدأت العجوز تحدثها عن يومها،
لم نذق لقمة منذ الصباح،ابنتي قالت أنا جائعة فخرجت علّي أجد لها طعاما.
تعاطف معها من سمع، لكنها نزعت من سمر أول مسامير شرودها، تحدث نفسها: أنا تناولت طعاما في بيتي ومازال بإمكاني أن أطبخ المزيد -اللهم لك الحمد- هل بدأتُ أتبطر على النعمة!
استرسلت العجوز معها في الحديث: هل تعلمين أنا لا أعمل وأكد إلا من أجلها، تعلم أنها تشير لابنتها المصابة بإعاقة ذهنية، هي تحكي وسمر تفكر أن جميع أولادها أصحاء، وتتخيل لو كانت في بلائها، ماذا ستفعل، وكم ستصبر؟
قالت العجوز وقد انشغل المحيطين عنهما: أنجبت ثلاثة صبيان وفتاتين، الأخرى زَوَجها والدها من رجل لم يتأكد من حاله وحال أهله، وسكنت معه في بلده البعيدة عنا، أنجبت ولدين لكنها كانت تعاني ولا نعلم عنها شيئا، والدة زوجها مختلة، كانت تعامل بسوء وتجبر على أعمال فوق طاقتها، تحملت التعب والمهانة حتى وصل الأمر حد الضرب المبرح من والدة زوجها دون أن يردعها أحد، أهملوها عند الولادة مما دفع الأطباء لاستئصال رحمها، لقد عادت لي بطفلين لا أعلم كيف سنعولهم، ترفض تركهم له ويرفض هو أن يعولهم، تطلب الطلاق وصلت حد الخوف على أولادها ونفسها من القتل، وستكون حجتهم قتلت بيد مختلة.
لم تستطع سمر التكلم بغير عبارات التشجيع والمواساة، لكن وفي سرها تحمد الله على حالها.
سكتت العجوز الستينية لتتمالك نفسها، ثم أردفت بمرارة: هل تعلمين يا ابنتي كل أولادي خرب؟!
ماذا تقصد ؟لم أكد أفكر حتى استطردت:حتى ولدي السليم فيه مرض جسدي يؤرقه ليلًا نهارًا، ولي ولد آخر في قريتنا مجنون، لكنه جنان عاقل.
يالمرارتك يا أم!
تُجملين ما قد يُظن بولدك،إنه لايؤذي أحدا، هو فقط لا يعلم عن حاله شيئا يظل يسير حتى تتفطر قدماه وتخرج الدماء.
تساءلت إحداهن:ومن يطعمه؟
-له عم يعتبر كبير القرية وهو يأكل عنده، أو من أي كان.
عمه هذا كان قد عقد قرانه على إحدى بنياته كان ولدي يحبها، كان يعمل وما يكسبه لها ولوالديها ونحن لا يذكرنا، ثم سافر بإيعاز من عمه، بعد أن منحته ذهبي وبعنا قطعة أرض مقابل المهر.
سافر حتى يكسب ما يمكنه من توفير رأس مال لعمل يعتاش منه، ويتم الزواج سريعا.
اختنقت بعبراتها:عاد بعد شهور قليلة ليجد عمه قد زوج ابنته تلك من رجل ثري ورحلا.
بصدمة من سمر:أي ظلم وحيلة خبثة وقع فيها. ترددت أصوات من قبيل هذا حرام، لايجوز، ألم يرده أحد عن شنيع فعله، لتسكتنا الستينية وهي تقر:
لا يمكن رد كلمته في القرية فهو شيخها ومفتيها، خيّر ولدي بين بناته عوضا عمن أحبها وعقد عليها، رفض ولدي قال أنا أحبها لا أريد سواها، تعبت نفسيته واسودت الدنيا في عينيه.
العم أعاد لنا المهر لكن عقل ولدي ما عاد أبدا، كان يتحدث في كل مكان ومناسبة، دون اتزان بأنه سيتزوج هذه أو تلك حتى جن تماما.
سكت الجميع، لتقول لنا: في تلك الفترة مرض زوجي أصابة مرض السكري، أظن من قهره على ولده، يصيح بما أصاب ولدنا بسببهم، ولكن حاله تدهورت وأصيب بالغرغرينا، سافرنا للعاصمة لبتر رجله اليمنى من الفخذ، لنعاود الكرة بعد عام فنقطع الأخرى بعد أن بعنا مابقي من أراض ومدخرات، لكنه مات ولم ينفع البتر ولا الدواء، مات وهو متحسر على ولده وصرت ضائعة بعده لا مال ولا زوج ولا من يعينني مع أولادي.
أتت الحرب لنطرد من قريتنا، ويظل ولدي هناك، أخذه عمه بحجة أنه سيعتني به، وأنا لن أستطيع يكفيني ابنتي هذه.
لم وافقتي؟ تساءلت سمر
-لا يحدث إلا مايقوله الشيخ، تجلدت المرأة لتتحجر الدموع في عينيها، بلمعة صبر وانكسار عجز.
حان الوقت لتوديعها، الممرضة تنادي باسم سمر؛ أعطتها مبلغا من المال في كفها، سلمت عليها لتقابلها العجوز بذات الابتسامة الراضية، تولت سمر لتقابل طبيبتها.
لكن مهلا!
لم أعرف ما ابتلاء الولد الثالث.
هل حقا يهم؟! سمر لم تر أحدا أجلد وأقنع منها رغم شدة ابتلاءاتها، إنها مازالت لأولادها محبة، ولقضاء ربها متقبلة راضية صابرة.
فكرت سمر في نفسها،:
لو كانت ابتلاءات العجوز قد أصابتني قد لا أثبت.
نعم! أرسل الله لي هذه العجوز لتعلمني أن بلائي يناسبني وسأنجح فيه.

قد يعجبك ايضا
تعليقات