القاهرية
العالم بين يديك

وسواس

119

.
بقلم_  حمادة توفيق.

وقفَ يرمقُ الشمسَ بعينينِ زائغتينِ واجمتينِ، ووجهٍ مُكفهرٍّ يتصبَّبُ عرقًا.
– تلك الشمسُ شاهدةٌ عليكَ، وتعلمُ ما تفكِّرُ فيه، لو استطاعتْ أن تقذفكَ بنارها المستعرةِ لتُخلِّصَ العالمَ من شرِّكَ المستطيرِ لفعلتْ، إنه أخوك، أخوكَ أيها الآثمُ!
هكذا حدَّثته نفسه، فمدَّ أنامله يمسحُ عَبَرَاتٍ ساخناتٍ ترقرقنَ من عينيه، ثم استدارَ ناحيةً لينظرَ إلى أخيه مجدَّدًا، إنه لا يزالُ ماثلًا فوق الجبلِ غيرَ بعيدٍ منه.
– ماذا قررت؟
انتبهَ للصوتِ فالتفتَ سريعًا.
– لقد تغيرتَ كثيرًا، محالٌ أن تكونَ صديقي الذي أعرفه، كيف طاوعتكَ نَفسُكَ أن تأمرني بقتل أخي؟!
ضحكَ ضحكةً مرعبةً بَثَّت في نفسه الهلعَ والفزعَ، دنى منه حتى كادَ أن يلتحمَ به.
– أخوك؟ الآن صار أخاكَ ورقَّ له قلبك؟ ألم تنتظرْ تلك الفرصةَ زمنًا أيها الأبلهُ؟ ها قد جاءتك وعلى طبقٍ من ذهبٍ.
ذَكَّرهُ كلامُ صديقه بالأضغانِ التي يحملها في قلبه تجاهَ أخيه، هو أخوه، نعم، ويجري في أوداجهما نفسُ الدمِ، بيد أنه استأثرَ بحبِ أبيه دونه، بل وبأمواله كذلك، ما عنَّ له طلبٌ إلا لبّاهُ له أبوه، وما تاقتْ نفسه لشيءٍ إلا اشتراهُ له في لمحِ البصرِ، بينما هو، فالابنُ الأكبرُ وحسب، لا حظَّ له في محبةِ أبيهِ إلا كحظِّ منقارِ طائرٍ انغمسَ في ماءِ بحرٍ خضمٍّ، أما أموالُ أبيهِ فمحرومٌ منها على الدوامِ، وأما الأشياءُ التي يبتغيها ويطمحُ للحصولِ عليها فلا ينالها البتّةَ، ولو نالَ بعضها فلا يكونُ ذلك إلا بِشِقِّ الأنفسِ.
أكانَ صعبًا على أبيه أن يعدلَ بينهما؟ كلا، لو أرادَ لفعلَ، لكنه رجلٌ ظالمٌ، وليحرِقنَّ قلبه عليه.
نعم، هو يغارُ، بل تأكلُ الغيرةُ أحشاءَهُ وتُلهبُ قلبَه، وها قد حانت اللحظةُ المناسبةُ ليثأرَ، وليستأثرَ بثروةِ أبيه وحدَه، فأبوه الآن على فراشِ الموتِ، ولعلها ساعاتٌ ثم يرحل، فلتخلُ له الساحةُ إذن، وليفز وحده بمالِ أبيهِ، ذلكَ المالُ الذي حُرمَ منه زمنًا ..
– يا أنت !!
– سأفعل.
تحرَّك صوبَ أخيهِ، بينما وقفَ صديقه يشاهدُ ما يحدث.
صار يَحُثُّ الخطى حتى صارَ خلفه مباشرةً.
استدارَ إليه أخوه باسمَ الثغرِ منبسطَ الأساريرِ.
– الجوُّ لطيفٌ جدًَّا.
ابتسمَ له ابتسامةً صفراءَ وهزَّ له رأسه وهو يتطَّلعُ حوله.
– لقد كنتَ محقًّا، الرحلةُ رائعةٌ فعلًا والمكانُ أروعُ، نعمَ الأخُ الكبيرُ أنت!
عادَ يبتسمُ نفسَ الابتسامةِ الصفراءِ.
التفتَ أخوه مستدبرًا إياه، لم يتردد لحظة، بسطَ يديه فوضعهما في ظهره ودفعه من فوقِ الجبلِ، فهوى من الأعلى وقد صرخَ صرخةً سمعها القاصي والداني.
طفقَ ينظرُ إلى يديه الآثمتين، بينما انهمرتْ من عينيه دموعٌ كأنهنَّ السحبُ المواطرُ.
مضى إليه صديقه فرحًا مغتبطًا:
– هنيئًا لك ثروةُ أبيك.
ثم اقترب من أذنه هامسًا:
– ولي فيها الربعُ.
– ماذا؟
قال في خبثٍ:
– لا تنسَ أنني صاحبُ الفكرةِ أصلًا، ولا تنسَ كذلك أنني مطلعٌ على سرِّكَ، لقد ارتكبتَ للتوِّ جريمةَ قتلٍ من الدرجةِ الأولى، وبِناءً عليه، فسَتُلبِّي مطلبي صامتًا وبلا نقاشٍ.
وقفَ يكشِّرُ عن أنيابه غاضبًا وقلبه يغلي كغليان المرجل.
أما أخوه فقد تهشمت عظامه وجمجمته من أثرِ السقطة، فصارَ يسبحُ في بحرٍ من الدماءِ، وقد فارقَ الحياةَ.
نزل مسرعًا ينظرُ إلى أخيه الصغير، رقَّ قلبه لما رأى المنظر، فاقتربَ منه هامسًا:
– سامحني يا أخي، سامحني رجاءً ..
غمسَ يده في دماءِ أخيه، ثم جعلَ ينظرُ إليها وإليه:
– لا ذنبَ لك يا أخي، على الإطلاق، فالذنبُ ذنبُ أبيك، لكن ما ذنبي أنا أيضًا لتفوزَ بمحبةِ أبي دوني؟ إلى الجنة إذن، أما أنا، فلتأتِ إليَّ الدنيا مهرولةً بعد حرمانٍ طالَ.
نظر إلى أعلى الجبل، فإذا صديقه ينظر إليهما واقفًا كالشيطان.
وما هي إلا لحظاتٌ ثم سمعَ صافرةَ سيارةِ الشرطةِ غير بعيدٍ، ومن ورائها صافرةُ سيارةِ الإسعاف، ثم ترَجَّلَ ضابطٌ وثُلةٌ من العساكرِ، وساروا نحوه.
– سقطَ أخي من فوق الجبل.
تقدم العساكرُ فوضعوا الجثةَ في السيارة، ثم ركبَ هو وصديقه سيارةَ الشرطةِ، وتوجهت بهما إلى القسمِ للتحقيق فيما جرى.
وفي القسم تلعثمَ أمام الضابط بعدما سأله عما حدثَ.
فتطوَّعَ صديقه، فألَّفَ حكايةً لما جرى، بينما جعل الضابطُ يهزُّ رأسه مدعيًا التصديق.
وبينما هم كذلك إذ رنَّ هاتفُ الضابط، فأجابه قائلًا:
– نعم؟ ماذا تقول؟
ثم التفت إلى الشاب وصديقه قائلًا:
– أخوكَ لا زالَ على قيدِ الحياة.
أصابَ الشابَّ وجومٌ كبيرٌ واستولت عليه الدهشةُ، وتمكن منه خوفٌ لا حدودَ له.
سأله الضابطُ قائلًا:
– لماذا قتلته؟
– عاد يتلعثم:
– أنا؟ لم أقتله، هو الذي سقط، بالله هذا ما حدث.
– أخوك اعترف عليك، قال أنك ألقيته من أعلى الجبل.
– احمرَّ وجهه واضطربَ اضطرابًا بانَ على مُحيَّاه.
– من الأفضلِ أن تعترف، ولعلَّ اعترافكَ أن يُخففَ الحكم.
التفت إلى صديقه:
– هذا صاحبُ الفكرة، لقد كنت معارضًا من البداية، لكنه ألحّ عليَّ !!
غضبَ صديقه فانبرى يدافعُ عن نفسه باستماتة.
فتحَ الضابطُ محضرًا باعترافاتِ المتهمينِ، ثم أمرهما بالتوقيعِ عليه، وبعد أن وقعا نظرَ إليهما باسمًا ثم قال:
– اعذراني، الشابُّ مات فورَ سقوطه، والاتصالُ كان مفبركًا، لكنَّ الحيلةَ والحمدُ لله آتتْ ثمارها.
استولت على الشابين الدهشةُ وتمكن منهما الذهولُ.
– حيلة؟
نادى الضابطُ على حاجبه ثم قال:
– خذهما إلى الحجزِ لحينِ تحويلهما إلى النيابة.
فصارا معه مكدودينِ مهمومينِ موجوعينِ، بينما قال الضابطُ في أسفٍ بالغٍ:
– صرنا في الزمنِ الذي يقتلُ فيه الأخُ أخاه، وما أرى القيامةَ إلا قريبةً، توشكُ أن تُدقَّ أَجراسُها.

قد يعجبك ايضا
تعليقات