.
كتب _حمادة توفيق.
اعتدتُ السهرَ حتى صرتُ له مدمنًا، كان إذا غلبَ عينيَّ النعاسُ طارَ بهِ فكرٌ لا يهدأ ولا يستكينُ، كان معظمُ ندمائي وخِلَّاني يعجبون من جَلَدي العجيبِ على السهرِ ومغالبةِ النومِ، وكانوا يأسفونَ لحالي الذي يُرثى له، فلقد تبدّلَ الحالُ وتغيّرَ، استحالتْ العافيةُ داءً، والصحةُ سَقَمًا، والابتساماتُ التي لم تكن تفارقُ وجهي حزنًا يلوحُ لكلِّ راءٍ، والعيونُ المُفعمةُ بالأملِ والتمنّي نافذتينِ مظلمتينِ يحيطُ بهما سوادٌ قاتمُ، والأملُ الذي كان يَحُثُّ على الصمودِ في وجهِ الصعابِ يأسًا مقيتًا ومُميتًا.
طاردتني أسئلتُهم في كلِّ مكانٍ خطَتْ إليه قدمي، أسئلةٌ بالعشراتِ تبحثُ عن إجاباتٍ شافيةٍ كافيةٍ: ماذا غيَّركَ وبدَّلكَ؟ لماذا أدمنتَ السهرَ بهذه الطريقةِ؟ أين فتى الماضي المنطلقُ الذي كان يملأُ الدنيا فرحًا ومرحًا؟
كان الاكتئابُ يلجمُ لساني فتتكلم عينايَ بما يجولُ في صدري، وددتُ لو أخبرتُهم الحقيقةَ، فلو عرفوا أنّ السببَ هو الفراقُ لزالتْ دهشتُهم.
نعم كان السببُ الأولُ والأخيرُ فيما كنتُ أُكابدُ وأُعاني هو الفراقُ، لقد تعلقتُ بها تعلُّقًا قاتلًا، لم تكن أبدًا مجردَ حبيبةٍ كان القلبُ يهواها ويتمناها، بل كانت الحياةَ في أبهى صورِها وأحلى معانيها، كانت الحلمَ والأملَ، الحاضرَ والمستقبلَ، قصةَ الميلادِ بعد فناءٍ دامَ زمنًا في غياهبِ اليأسِ والوجعِ، لا لم تكن مجردَ حبيبةٍ فحسبُ، على الإطلاقِ!
هبطتْ كقطرةِ ندى على صحراءِ حياتي القاحلةِ فأينعتْ ثمرًا وزهرًا، داعبتْ القلبَ التعيسَ فهشَّ لها وبشَّ، ثم فتحَ لها جميعَ نوافذِهِ فانطلقتْ كالسهمِ، فإذا بها تتربَّعُ على عرشهِ كالملكةِ المُتوّجةِ، علمتني كيف أتمسَّكُ بالأملِ وأتحلى بالصبرِ، ثم كانتْ الكارثةُ!
نسيتْ وعودَها بالبقاءِ، ولملمتْ الذكرياتِ بكفٍّ يرتعشُ ثم ولت مدبرةً، يومها استوقفتُها قبل الرحيلِ وفي عينيَّ سؤالٌ حائرٌ عجزَ اللسانُ عن البوحِ بهِ، فأجابتْ وبقسوةٍ تُحسدُ عليها: إنه الفقرُ!
قلتُ بعد صمتٍ طال: الفقر؟
فقالت: الحبُّ وحدَه لا يكفي.
عندها وعندها فقط ضاعَ الأملُ وحضرَ اليأسُ، حلَّ السهرُ فصارَ الخلَّ والنديمَ، أما النومُ فلقد ولّى، ولّى مُدبرًا ولم يُعقبْ ..
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية