بقلم_ حمادة توفيق.
وقفَ ينظرُ إلى القمرِ في كَبَدِ السماءِ وقد أضاءَ كشافًا صغيرًا كان معه، الليلُ داجٍ قد أرخى سُدولَه وخيم على القرية بمن فيها، ساعتان اثنتان، ثم تَهِلُّ بوادرُ الفجرِ وتُقبِلُ نَسائِمُه العِذابُ، أطلقَ آهاتٍ كأنهنَّ نفثاتُ المصدورِ أو زفراتُ المحزونِ، ترقرقتْ من عينيه عبراتٌ سخيناتٌ ضاق بحَبسهِنَّ ذرعًا، فمد يده يكفكفها بقلب يئنُّ وجعًا.
– آهٍ يا عايق!
أطفأ كشافه، ثم أطلق صرخةً سمع صداها يتردد في الأرجاء، وكأن الطبيعة تشاركه ألمًا مُمِضًّا يكابدُ حُميَّاه وحده ودون سواه، لاحت له مقابرُ القرية قريبة قاب قوسين منه أو أدنى، حثَّ الخطى حتى دخلها وطفق يمشي في تؤدة وسكينة.
الظلامُ يَعُمُّ المكانَ إلا من بعض أضواءٍ يرسلها القمرُ على استحياء، فإذا توارى خلف غيمة كبيرة انقطعت فذهبت أدراج الرياح.
أضاء الكشاف مجددًا مخافة أن تزل قدمه أو يتعثر في شيء، هبت نسمة باردة أنعشته ولطفتْ سخونةَ جَسَدِهِ المثقلِ بالآلامِ، فليتعشَّمْ إذن أن يُلَطِّفَ لقاؤه بأخيهِ حرارةَ فقدانٍ يكتوي بلهيبِهِ المستعرِ.
المقابرُ شاخصةٌ وسطَ الظلامِ منتظمةٌ في صفين طويلين وسط أرض فضاء على أطراف القرية، أرض تتناثر فيها شجيرات في أماكن شتى، ناشرةً ظلالها على بعض المقابر دون بعض، مُوفِّرةً مستراحًا حلوًا للمتعبين من زائري الموتى أو مُشَيِّعي الجنائزِ.
مر شريط الذكريات أمام ناظريه فضاعف وجعَه واستدرَّ دمعَه، فانهملت عيناه كأنهما السحب المواطر.
ها هو أبوه يضرب أمه أمامه، يلطمها على وجهها فينساب من فمها الدم، فقط لأنها تطالبه بالتوقف عن معاقرة المخدرات وأن يتصرف كرجل، وحُقَّ لها أن تغضب وأن تثور، ألم يرث أبوه ثروةً فضيعها في معاقرة المخدرات وإدمان الخمور ولعب القمار؟
يومها احتضن أمه يكفكف دموعها بقلب حزين ونفس ملتاعة ويد ترتجف، فابتسمت وقالت:
– لا خير في أبيك، لقد انحرد عن الجادة فخاب فيه رجائي، إن كان ثمة عوض فأتعشم أن أراه فيك أنت وأخيك.
– العايق؟
– لازمَ أحدَ البنَّائين في القرية حتى أتقن مهنة البناء، وآثر أن يسعى لاكتساب الرزق الحلال، يغدو أول النهار فيعود آخره مثقلًا بالوجع، فقط ليصلح خَلَلًا تسبب فيه أبوه، وفي الوقت الذي انحرف فيه أبوه عن الجادة استقام هو، فلازم الصلاةَ وحفظَ القرآنَ ومخادنةَ الأتقياءِ والأصفياءِ، وأنت؟
– أنا؟
– سيجبرُ اللَّهُ بك كسري ويسرُّ بك قلبي ويجعلك كأخيك سَمْتًا ودَلًّا، فما أراك إلا رجلًا بحق، قوي الشكيمة جميل الطباع عفيف النفس.
سمع فجأة مُواء قطة فتوقف شريط الذكريات، نظر أسفل قدميه فإذا بقطة سوداء تحملق فيه بعينين مخيفتين، استولى عليه فزعٌ جمٌّ تمكن منه أيما تمكن، وسرت في جسده قشعريرة وجد أثرها في جسده كله، لكن سرعان ما دفعها بقدمه فجرت بعيدًا.
مدَّ يده يمسح دمعات ترقرقن من عينيه، طفق يحدث نفسه كمن جُنَّ.
– لقد خاب ظنك يا أمي، جرفني أبي في طريق الحرام، صرت مدمنًا لصًّا وقاتلًا محترفًا بل ومطلوبًا للعدالة، حتى أخي عليه نسائم الرحمة، لا أتمكن من زيارته إلا ليلًا، مخافة أن يُقبض عليَّ أو يتم الإيقاع بي.
فجأة استشعرَ حِسًّا من خَلفِهِ كأن أحدًا يراقبه، التفت إلى الخلف سريعًا بقلبٍ وَجِلٍ فلم يرَ أحدًا، لمح خيالًا غير بعيد يتوارى خلف شجرة فأسرع الخطى، لم تمضِ سوى دقائق معدودات وكان أمام قبر أخيه.
تهاوى أمام القبر كضِنوِ سَفَرٍ، أسند إلى القبر ظهرًا مُتعبًا ومضى يلتقط أنفاسه لاهثًا، انهمرت من عينيه الدموع.
– أخي، يا حرقة قلبي عليك، من كان يتوقع أن تموت، لم يكن في الحسبان أبدًا أن تكون هذه نهايتك، ومن كان يتوقع أن يموت العايق؟ الشاب الوسيم الطيب حسن السيرة، والأدهى والأمرُّ أن تموت قتيلًا، وبيد من؟ بيد أبيك، آه! ما أبشعَ أن يكون سببُ وجودِك وبزوغِ فجرِك هو نفسُه سببَ موتِك وغروبِ شمسِك، آه يا وجعًا لا يُحتَمَل آه يا جُرحًا لا يندمِل!
طفق يتذكر ليلةَ الحادثةِ بقلبٍ يعتصرُ ألمًا، انهملت مآقيه بالدموع كأفواه القِرَب.
ليلة مشؤومة لا تُنسى، العايق وصل من عمله خائر القوى كعادته، وبينما كانت الأم تحضر العشاء، سمعت حِسَّه، فخرجت إليه جذلانةً محبورةً فرحةً مسرورةً، قَبَّلَ يديها كعادته، ثم خفَّ إلى حجرة أخيه ليطمئن عليه، وما أن رآه حتى اعتنقه وعلى وجهه ابتسامة رقراقة كابتسامة طفل صغير، ولما اطمأن عليه خرج فتوضأ ثم صلى العشاء وجلس يقرأ ما تيسر له من كتاب الله.
وما أن وضعت الأمُّ العَشاء حتى نادت عليه، فترك مُصحَفَه على نضدٍ صغيرٍ ثم قام، وقبل أن يجلس أقبل الأب ثائرًا مُغضبًا، فلم يستهل كلامًا ولم يُلقِ سلامًا، وإنما انطلق إلى دولاب العايق يبحث فيه عن نقود يشتري بها ما اعتاد على معاقرته من المخدرات، فوقف العايق أسِفًا يضرب كفا بكف وهو يقول:
– لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولم تمض إلا لحظات حتى خرج كاسف البال فوقف أمامه مُتبجِّحًا يقول:
– أحتاج نقودًا.
– لماذا؟
– ليس هذا من شأنك ولا من شأن أمك، أعطني نقودًا، لا تضيع الوقت فيما لا طائِلَ وراءَه.
– ستشتري بها مخدرات كعاتك أليس كذلك؟
– قلتُ هذا ليس من شأنك أنا أبوك وكما قيل أنت ومالُك لأبيك!
– ونعم الأبوة!
عند ذلك ثارت ثائرة الأب فانطلق إلى المطبخ فتناول سكينًا ثم جاء وعيناه تقتدحان بالشرر، وما أن رأته الأم حتى صرخت صرخة تصدعت لها جدران المنزل، فوقفت حائلًا أمامه لتمنعه من أن ينال ابنها بسوء.
بيد أن العايق لم يخف ولم ترمش له عين، وإنما قال لأمه في ثبات أيِّ ثبات وعزيمة أيِّ عزيمة:
– دعيه يا أمي، أبي رجلٌ طيبٌ لا أظنني سأهونُ عليهِ.
فدفع الأب زوجتَه بعيدًا ثم انطلق إلى العايق:
– أحتاج نقودًا لا تثر غضبي أكثر من ذلك واشتر عمرك.
ابتسم:
– ليس معي نقود فافعل ما بدا لك.
عند ذلك بلغَ الغضبُ بالأب مداه ومنتهاه فرفع السكينَ وغرسها في صدر العايق، فأطلق آهةً طويلةً ثم انهارَ على الأرضِ غارقًا في دمائِه، استولت الصدمةُ على الأم والأخ معًا، الأب واقف والسكين في يده تقطرُ دمًا، العايق مُضرَجٌ بدمائِه يلفظُ أنفاسَه الأخيرةَ وهو يشير بسبابته إلى السماء كأنه يَتَشَهَّدُ، الصمتُ خيم على المكان، جدران المنزل تبكي وجعًا، الهواء ثقيل على الصدور، رائحة الدماء أزكمت الأنوف، ثم، إذا بقلب الأم لم يحتمل فسقطت ميتةً، والأخ تَمَكَّنَ منه الذهولُ فلم يُحَرَّ جوابًا، والأبُ أسقطَ السكينَ من يده ثم جلس بجانب العايق وقد بسط يديه كالمستعطف:
– ابني، يا عايق، تكلم أرجوك!
لكن العايق لم يتكلم، انتهت الحكاية، أُسدِلَ الستار، الأب دخل السجن، الأم ماتت، الأخ تشرد فأصبح مجرمًا كأبيه، أما العايق فمات جوعانًا، يبدو أنه كان موعودًا بطعام في الجنة أشهى وأحلى.
استدار يعتنق القبر بذراعيه وعيناه تذرفان تاركتين على خَدَّيهِ الأسيلين خطين طويلين من الدموع.
– أخي الحبيب، أفتقدُ وداعتَك، أفتقدُ رحمتَك بي وعطفَك عليَّ، أفتقدُ توجيهاتِك، نصائحَك، أفتقدُ أحضانَك الدافئةَ، أفتقدُ ابتساماتِك العِذابَ، ضحكاتِك البريئاتِ، أفتقدُ عينيك، أفتقدُك يا عايق.
تأوه وقد استبدَّ به الحنينُ فاستدرَّ نشيجَه:
– ولماذا أُطلِق عليك لقب العايق يا ترى؟ لأنك كنتَ وسيمًا حلوَ الملامحِ نظيفَ الثيابِ طيبَ الرائحةِ، كان يُضربُ بك المثلُ في ذلك كله، فأطلقوا عليك في القرية هذا اللقب.
أطرق برأسه ثم رفعها وقد أخفض من صوته:
– أمك ماتت يا عايق، ماتت في نفس الليلة المشؤومة التي افتقدناك فيها، لعلك تراها في عالم الأرواح، بل لعلها معك الآن، فأرجوك بلغها سلامي، وأخبرها أن اشتياقي إليكما قد طال، وحنيني إليكما تمكن مني ففعل بقلبي الأفاعيل.
سمع خشخشة غير بعيد منه فالتفت سريعًا، إنه نفس الطيف الذي لمحه منذ قليل يتوارى خلف شجرة، وقف وقد قرر شيئًا، ليتبعنَّ هذا الطيفَ أنَّى ذهب.
انطلق كالسهم خلف الطيف لا يلوي على شيء، فإذا انحرف شمالًا تبعه وإذا انطلق يمينًا تبعه، والمقابر قائمة في الظلام والليل حالك السواد وعواء الكلاب على أطراف المقابر متصل لا يتوقف، فجأة سقط الطيف أرضًا فوقف هو على رأسه يلهث، فتح مطواةً كان يحملها ثم أضاء كشافه وتوجه به صوب رأس الطيف فإذا برجل ملثم.
– أزل اللثام، أرني من أنت!
هز الرجل رأسه.
– لعلك رَصَدٌ من الشرطة تتبعني إلى هنا.
رفع المطواة عاليًا:
– حتى أخي القابع بين أطباق الثرى ستحرمونني من زيارته والاستئناس بمجالسته.
كاد أن يهوي بالمطواة على جسد الرجل فصرخ:
– انتظر.
كشف اللثام عن وجهه فكانت الصدمة!
– أبي!
سالت الدموعُ سخينةً على خديه:
– لا أصدق عينيَّ.
وقف أبوه، اقترب منه حتى كاد أن يلتحم به.
– من فترة طويلة وأنا أزور أخاك وأطلب منه المغفرة، أخوك كان رقيقًا طيب القلب، ولولا يقيني أنه سيغفر لي لما جئت المقابر متخفيًّا مثلك.
– لا تطلب المغفرة من الأموات فالأموات أفضوا إلى ما قدموا وهم لا يملكون ضرًّا ولا نفعًا، إن أردت أن يُغفر لك فتب إلى الله توبة نصوحًا، والتوبة كما كان أخي يقول: تَجُبُّ ما قبلها.
– اسمعني يا بني.
نظر إليه وفي عينيه آلاف الأسئلة.
– الفترة التي قضيتها في السجن غيرتني كثيرًا، تعرفت على رجال فضلاء ساعدوني على التعافي من الإدمان وانتشلوني من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة ومن وحل الجهل إلى معراج العلم، ولولاهم لأمعنت في التيه والطغيان.
– تغيرت يا أبي!
سمعا آذان الفجر يصدح في كبد السماء:
– الله أكبر الله أكبر.
تقدم منه أبوه وقد رفع سبابته إلى السماء:
– تلك إشارة يا بني، هلم معي.
– هلم.
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية