القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

الخراج أحد مصادر الدخل

99

القاهرية
الخراج له معنيان: عام وهو كل إيراد وصل إلى بيت مال المسلمين من غير الصدقات، فهو يدخل في المعنى العام للفيء ويدخل فيه إيراد الجزية وإيراد العشور وغير ذلك، وله معنى خاص: وهو إيراد الأراضي التي افتتحها المسلمون عنوة وأوقفها الإمام لمصالح المسلمين على الدوام كما فعل عمر بأرض السواد من العراق والشام ، والخراج كما قال ابن رجب الحنبلي لا يقاس بإجارة ولا ثمن، بل هو أصل ثابت بنفسه لا يقاس بغيره .
عندما قويت شوكة الإسلام بالفتوحات العظيمة وبالذات بعد القضاء على القوتين العظيمتين الفرس والروم، تعددت موارد المال في الدولة الإسلامية وكثرت مصارفه، وللمحافظة على كيان هذه الدولة المترامية الأطراف وصون عزها وسلطانها، وضمان مصالح العامة، والخاصة كان لابد من سياسة مالية حكيمة ورشيدة، فكر لها عمر رضي الله عنه، ألا وهي إيجاد مورد مالي ثابت ودائم للقيام بهذه المهام، وهذا المورد هو:الخراج فقد أراد الفاتحون أن تقسم عليهم الغنائم من أموال وأراضٍ وفقاً لما جاء في القرآن الكريم خاصاً بالغنائم ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ41 ( الأنفال،آية:41.
وقد أراد عمر رضي الله عنه في بداية الأمر تقسيم الأرض بعد الفاتحين، لكن عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عدم التقسيم، وشاركه الرأي معاذ بن جبل، وحذر عمر من ذلك ، وقد روى أبو عبيد قائلاً: قدم عمر الجابية فأراد قسم الأراضي بين المسلمين فقال معاذ: والله إذاً ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يَسُدون من الإسلام مَسَداً، وهم لا يجدون شيئاً فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم ، لقد نبه معاذ بن جبل رضي الله عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى أمر عظيم، جعل عمر يتتبع آيات القرآن الكريم، ويتأملها مفكراً في معنى كل كلمة يقرأها حتى توقف عند آيات تقسيم الفيء في سورة الحشر، فتبين له أنها تشير إلى الفيء للمسلمين في الوقت الحاضر، ولمن يأتي بعدهم، فعزم على تنفيذ رأي معاذ رضي الله عنه، فانتشر خبر ذلك بين الناس ووقع خلاف بينه وبين بعض الصحابة رضوان الله عليهم، فكان عمر ومؤيدوه لا يرون تقسيم الأراضي التي فتحت، وكان بعض الصحابة ومنهم بلال بن رباح، والزبير بن العوام يرون تقسيمها، كما تقسم غنيمة العسكر، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، فأبى عمر رضي الله عنه التقسيم وتلا عليهم الآيات الخمس من سورة الحشر من قوله تعالى: ( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ6 ( الحشر،آية:6 حتى فرغ من شأن بني النضير ثم قال:( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ7 ( الحشر،آية:7 فهذه عامة في القرى كلها، ثم قال: ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ8 ( الحشر،آية:8 ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال:( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإْيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ9 ( الحشر،آية:9 فهذا في الأنصار خاصة ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ10 ( الحشر،آية:10، فكانت هذه عامة لمن جاء بعدهم، فما من أحد من المسلمين إلا له في هذا الفيء حق، قال عمر: فلئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه ، وفي رواية أخرى جاء فيها. قال عمر: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت، ما هذا برأي، فقال له: عبد الرحمن ابن عوف فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم، فقال عمر ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك، والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى أن يكون كلا على المسلمين، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل لهذا البلد وبغيره من أراضي الشام والعراق؟ فأكثروا على عمر وقالوا: تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم وأبناء أبنائهم ولم يحضروا، فكان عمر رضي الله عنه، لا يزيد على أن يقول: هذا رأي، قالوا: فاستشر، فأرسل إلى عشرة من الأنصار من كبراء الأوس والخزرج وأشرافهم فخطبهم، وكان مما قال لهم: إني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي ثم قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها واضعاً عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين، المقاتلة والذرية، ولمن يأتي من بعدهم، أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها أرأيتم هذه المدن العظام لا بد لها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم فمن أين يُعطى هؤلاء إذا قسمت الأرض والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعم ما قلت ورأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يَتَقَوّوْن به رجع أهل الكفر إلى مدنهم ، وقد قال عمر فيما قاله: لو قسمتها بينهم لصارت دولة بين الأغنياء منكم، ولم يكن لمن جاء بعدهم من المسلمين شيء، وقد جعل الله لهم فيها الحق بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ( ثم قال: فاستوعبت الآية الناس إلى يوم القيامة، وبعد ذلك استقر رأي عمر وكبار الصحابة رضي الله عنهم على عدم قسمة الأرض .
وفي حواره مع الصحابة يظهر أسلوب الفاروق في الجدل، وكيف جمع فيه قوة الدليل، وروعة الصورة، واستمالة الخصم، في مقالته التي قال للأنصار، عند المناقشة في أمر أرض السواد، ولو أن رئيساً ناشئاً في السياسة، متمرساً بأساليب الخطب البرلمانية أراد أن يخطب النواب لينال موافقتهم على مشروع من المشروعات لم يجيء بأرقّ من هذا المدخل، أو أعجب من هذا الأسلوب؟ وامتاز عمر فوق ذلك بأنه كان صادقاً فيما يقول، ولم يكن فيه سياسياً مخادعاً وأنه جاء به في نمط من البيان يسمو على الأشباه والأمثال .
هل كان الفاروق مخالفاً للنبي صلى الله عليه وسلم في حكم أرض الخراج:
من قال: إن الفاروق خالف الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله في عدم تقسيم أرض الخراج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم خيبر، وقال: إن الإمام إذا حبس الأرض المفتوحة عنوة نقض حكمه لأجل مخالفة السنة، فهذا القول خطأ وجرأة على الخلفاء الراشدين – إذا فعلوا هذا الفعل – فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر إنما يدل على جواز ما فعله ولا يدل على وجوبه فلو لم يكن معنا دليل على عدم وجوب ذلك، لكان فعل الخلفاء الراشدين عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم دليلاً على عدم الوجوب، فكيف وقد ثبت أنه فتح مكة عنوة كما استفاضت به الأحاديث الصحيحة، بل تواتر ذلك عند أهل المغازي والسير؟ فإنه قدم حين نقضوا العهد ونزل بمر الظهران، ولم يأت أحد منهم يصالحه ولا أرسل إليهم أحداً يصالحهم، بل خرج أبو سفيان يتجسس الأخبار فأخذه العباس وقدم به كالأسير وغايته، أن يكون العباس أمنه فصار مستأمناً، ثم أسلم فصار من المسلمين، فكيف يتصور أن يعقد صلح الكفار – بعد إسلامه بغير إذن منهم؟ مما يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الأمان بأسباب، كقوله: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ، فأمن من لم يقاتله، فلو كانوا معاهدين لم يحتاجوا إلى ذلك، وأيضاً، فسماهم النبي صلى الله عليه وسلم طلقاء؛ لأنه أطلقهم من الأسر كثمامة بن أثال وغيره، وأيضاً فإنه أذن في قتل جماعة منهم من الرجال والنساء، وأيضاً فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال في خطبته: إن مكة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة .
ودخل مكة وعلى رأسه المغفر ولم يدخلها بإحرام، فلو كانوا صالحوه لم يكن قد أحل له شيء، كما لو صالح مدينة من مدائن الحل لم تكن قد أحلت فكيف يحل له البلد الحرام وأهله مسالمون له صلح معه؟! وأيضاً فقد قاتلوا خالداً وقتل طائفةً من المسلمين طائفةً من الكفار، وفي الجملة، فإن من تدبر الآثار المنقولة علم بالاضطرار أن مكة فتحت عنوة، ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم أرضها كما لم يسترق رجالها، ففتح خيبر عنوة وقسمها، وفتح مكة عنوة ولم يقسمها، فعلم جواز الأمرين ، وبذلك لم يكن الفاروق مخالفاً للهدي النبوي في عدم تقسيمه للأراضي المفتوحة، وقد كان سنده فيما فعل أموراً منها:
آية الفيء في سورة الحشر.
عمل النبي يصلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة عنوة فتركها لأهلها ولم يضع عليها خراجاً.
قرار مجلس الشورى الذي عقده عمر لهذه المسألة بعد الحوار والمجادلة وقد أصبح سنة متبعة في أرض يظهر عليها المسلمون ويقرون أهلها عليها وبهذا يظهر أن عمر حينما ميز بين الغنائم المنقولة وبين الأراضي كان متمسكاً بدلائل النصوص، وجمع بينها وأنزل كلا منها منزلته التي يرشد إليها النظر الجامع السديد يضاف إلى ذلك أن عمر كان يقصد أن تبقى لأهل البلاد ثرواتهم وأن يعصم الجند الإسلامي من فتن النزاع على الأرض والعقار، ومن فتن الدعة والانشغال بالثراء والحطام .
إن الفاروق رضي الله عنه كان يلجأ إلى القرآن الكريم يلتمس منه الحلول ويطوف بين مختلف آياته، ويتعمق في فهم منطوقها ومفهومها، ويجمع بينها ويخصص بعضها ببعض حتى يصل إلى نتائج تحقق المصالح المرجوة منها مستلهماً روح الشريعة غير واقف مع ظواهر النصوص وقد أسعفه في قطع هذه المراحل إدراكه الدقيق لمقاصد الشريعة بتلكم النصوص، وهي عملية مركبة ومعقدة لا يحسن الخوض فيها إلا من تمرس على الاجتهاد وأعطي فهماً سديداً وجرأة على الإقدام حيث يحسن الإقدام حتى خيل للبعض أن عمر كان يضرب بالنصوص عرض الحائط في بعض الأحيان، وحاشا أن يفعل عمر ذلك لكنه كان مجتهداً ممتازاً اكتسب حاسة تشريعية تضاهى حتى كان يرى الرأي فينزل القرآن على وفقه والنتيجة التي نخرج بها من هذه القضية هي أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ومثله في السنة، فعلى المجتهد وهو يبحث عن الحكم الشرعي أن يستعرض جميع النصوص التي تساعد على الحل دون الاقتصار على بعضها، وإلا عد مقصِّراً في اجتهاده، ويكون ما توصل إليه لاغياً .

قد يعجبك ايضا
تعليقات