كتب/ حمادة توفيق.
جاؤوا به مكبلاً بالأغلالِ ليوقفوه أمامي، ذهبوا وتركوه معي، تمالكتُ أعصابي قدرَ المستطاعِ رغمَ ما كان يعتملُ داخلي من غضبٍ لو كان ناراً لأحرقته، أدهشني تماسكه ورباطةُ جأشه رغمَ صعوبةِ موقفهِ كقاتلٍ، أشعلتُ سيجارةً لأهدئَ من روعي ولو قليلاً.
– لماذا قتلته؟
– لو عادَ للحياةِ مرةً أخرى لقتلتهُ ألفَ مرةٍ.
بلغَ بي الغضبُ مداه ومنتهاه، بيد أني حافظتُ على تماسكي حتى النهايةِ، نظرتُ إليه دهشاً:
– هل تعلمُ فداحةَ ما فعلتَ؟ أنت قتلتَ ضابطَ شرطة، قتلته على مرأى ومسمعٍ من عشراتِ الأمناءِ، كيف تجرأتَ على ارتكابِ جريمةٍ كتلكَ؟
نظرَ ناحيةً وقد سرحَ لبرهةٍ كالذي يستعيدُ ما حدثَ.
– الضابطُ الذي تتحدثُ عنه صفعني على وجهي وطمعَ في مالي وسبَّ أمي.
لمحَ رغبتي المُلحَّةَ لمعرفةِ التفاصيلِ، فواصلَ:
– لم أكن مخطئاً ولا مخالفاً على الإطلاق، لذلك لم أخشَ اللجنةَ التي كان هو على رأسها، ولم أغير طريقي عندما علمتُ بوجوده كما فعلَ الكثيرون ليلتها، وعندما استوقفني كانَ كلُّ أملي أن ينصفني وأن يتركني أمرُّ في سلام، ما أبشعَ أن يكون القائمونَ على تنفيذِ القانونِ هم أكثرُ الناسِ ظلماً وطغياناً !
نظرتُ إليه حنقاً:
– الزمْ الأدبَ يا متهمُ.
لم يهتز رغم تهديدي له، أردف:
– لقد رأى بنفسه رخصةَ القيادةِ ورخصةَ التاكسي وبطاقتي الشخصيةَ، وتيقنَ من عدمِ وجودِ أيةِ مخالفةٍ، ومع ذلك أصرَّ على تغريمي ..
انتابتهُ نوبةُ سعالٍ فجأة، طفقَ يسعلُ ويسعلُ ويسعلُ دون توقفٍ، ناولته زجاجةَ ماءٍ كانت على مكتبي فارتشفَ نصفها حتى هدأ قليلاً.
– أكمل.
– رفضتُ الدفعَ وقلتَ له: بيني وبينك القانونُ، أنا أوراقي سليمة قانوناً، ومستعدٌّ للفحصِ.
– ثم؟
– صفعني على وجهي أمامَ الأمناءِ وعشراتِ الواقفينَ، عند ذلك ثارت ثائرتي فاندفعتُ إليه غاضباً، لكنّ الأمناءَ حالوا بيني وبين الوصولِ إليه، فقال متهكماً: ياللشجاعة!
ثم دنى مني مردفاً:
– بعد الذي فعلته ذلك لن تمرَّ دون دفعِ الغرامةِ المقررةِ يا ابنَ العاهرةِ.
نظر إليّ:
– ضع نفسك مكاني وفي موقفي يا باشا، لو وجدتَ نفسك في موقفٍ تُظلمُ فيه بلا وجهِ حق، وتسبُّ فيه أمك، وتصفعُ فيه على وجهكَ، ماذا ستفعل؟
قمتُ من على مكتبي فتحركتُ نحوه، أخرجتُ علبةَ التبغِ فأشعلتُ سيجارةً أخرى.
– حسب ما هو مذكور هنا أنت خريج كلية الحقوق جامعة القاهرة بتقدير امتياز، كيف آل بك الحال وهذا مؤهلك للعمل كسائقِ تاكسي؟
ضحكَ ملءَ فيه كالذي سمعَ نكتةً مضحكةً، سكت متمالكاً نفسه، ثم عاود الضحك مرة أخرى كمن جُنَّ أو طاشَ عقله.
– أرجوك لا تحدثني عن المؤهلات، يا باشا لو كان في بلدك عدلٌ أو إنصافٌ لكنتُ جالساً الآن على كرسيك لا ماثلاً كمتهمٍ بين يديكَ، أنا أجدرُ بمنصبك منك ومن المرحوم زميلك، لكنّ قدري أنني مواطنٌ من الدرجةِ الثانيةِ، يا باشا هذا البلد له أسياده، أما أنا وأمثالي فضيوف، سنتركه لذويه طالَ الزمانُ أو قَصُرَ.
هزني كلامه هزاً، عدتُ فجلستُ على مكتبي.
– أكمل كلامك بشأن المرحوم إذن، أقصد الضابط الذي قتلته!
أردف:
– بعدما سبَّ أمي غلى الدمُ في عروقي، فأمي لا ذنب لها حتى تُهانَ، أمي امرأةٌ فاضلةٌ، ضَحَّتْ بالغالي والنفيسِ لتراني رجلاً ملءَ السمعِ والبصرِ، عاشتْ عمرها كله تتمنى أن أصبحَ ضابطاً مرموقاً أو محامياً مشهوراً، لكن لأننا فقراءٌ وبلا ظهرٍ خابتْ أمانيها، ثم تأتي اللحظةُ التي تُسَبُّ فيها وتُهانُ بلا جرمٍ تقترفه؟ لا، إلا أمي.
اعتدلتُ في جلستي.
– المهمُّ كيف قتلتهُ؟
– أمرتُ الأمناءَ أن يتركوني لأخرجَ له الغرامةَ التي طلبها، أدخلتُ يدي بجيبِ بدلتي فأخرجتُ مطواةً كنتُ أحملها لقطاعِ الطرقِ، اقتربتُ منه غيرَ خائفٍ ولا وجلٍ، وبحركةٍ خاطفةٍ غرزتُ المطواةَ في رقبته، ولولا أن حالَ الأمناءُ بيني وبين مرادي لمزقته إرباً.
قلت:
– أنت ارتكبت جريمةً عقوبتها الإعدامُ فهل لديكَ محامٍ للدفاعِ عنكَ؟
– لا ولن أوكل أحداً للدفاع عني وسأُعدمُ ورأسي مرفوعةٌ.
قلتُ له مبتسماً:
– لن تُعدم.
لاحتْ في عينيه علاماتُ الدهشةِ، توجهتُ ناحيةَ نافذةٍ تطلُّ على سوقٍ كبيرٍ بالخارجِ.
– أنت كدارسٍ للحقوقِ تعلمُ أن التهمَ تسقطُ بالتقادمِ، أليسَ كذلك؟
نظر إلي دهشاً:
– ماذا تقصد؟
نظرت من النافذة.
– هذه النافذة كما ترى تطل على سوق بالخارج، واليوم السوقُ منعقدٌ وعلى أشدّه، ومحال أن يتعرف أحدٌ على أحدٍ والحالُ هكذا.
– تقصد؟
– الآن سيأتي الشاويش ليأخذك إلى الحجز، غافله واققز من هذه النافذة، فإذا استقرَّ بك المقامُ في الخارجِ فاهرب إلى أي مكانٍ بعيدٍ تأمنُ فيه على حياتك، أمثالك من حقهم أن يعيشوا لا أن يُعدموا.
نظرَ إلى النافذة، ثم لاحَ على محياهُ شبحُ ابتسامةٍ حلوةٍ.