القاهرية
العالم بين يديك

فلسفة الحياة فلسفة اللذة والألم

158

.
كتب_ حمادة توفيق.
أوجدنا اللهُ في هذه الحياة لنجاهدَ تقلباتِها المُرَّةَ ونكابدَ آلامَها المتكررةَ، حارت عقول الحكماء في فلسفة الحياة، فهي على قِصَرها لكنها مدهشة محيرة وغريبة الأطوار، والذين تعمقوا في فلسفتها الغامضة وخاضوا بحرها الهادر فقدوا عقولهم أو كادوا.
الحياة، لفظ يتحرك أمام ناظريك في لهو وعبث، يرتع ويلعب، يلهب قلوب المقعدين والكسالى برونقه وخفته وبراعة حركته، يؤجج نار الأمل ويرسم الحلم في قلوب المتعبين وينقش السعادة رسومًا رقراقةً على جدران الوجع.
لكن، مهلأ، فلفظ الحياة يشتمل على عكس ما فات أيضًا، نعم، ألم يقل القائل الحكيم قديمًا: وبضدها تعرف الأشياء؟
فالحياة رحيل لاذع المرار، موت واحتضار، مرض وانكسار، سقوط واعتبار، امتحان واختبار.
الطفل يولد فتنبت بمولده بذرة الأمل الحلو، فها هو أبوه يوم قدومه فرح مغتبط جذلان منبسط الأسارير، قد هشَّت له الحياة وبشَّت، فوهبته قطعة من صلبه، قطعة شبيهة به للحد الذي قد يدهش الناظرين والمتفكرين، ينتشي فَرَحًا وهو يراه يكبر أمامه يومًا بعد يوم وعامًا إثر عام، يُنادى يا أبا فلان فَيَشْرَئِبُّ فَرَحًا وافتخارًا، لكن مهلًا، ففي ذات اللحظة التي يترعرع فيها الطفل ويشتد عوده يزداد الوالدُ ضعفًا على ضعف ويتقدم من الموت خطوات وخطوات، فاليوم الذي يُقَرِّبُ الطفلَ من شبابه اليافع يدنو به هو إلى رَمَسٍ موحش لا محالة سيأتيه.
هذا التناقض المر ألا تراه مدهشًا محيرًا؟ أن تحتوي الحياة على الأمل واليأس، الدمعة والابتسامة، الصلابة والضعف، القوة والوهن، الحركة والسكون، الماضي والمستقبل، اللذة والعلقم، هذا طبعها وهكذا جُبِلت، وقديمًا قال الشاعر في حقها:
طُبعت على كَدَرٍ وأنت تريدها
خَلوًا من الأقذاءِ والأكدارِ!
ومكلفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِها
مُتَطَلِّبٌ في الماءِ جَذوةَ نارِ!
نعم، هذه هي الحقيقة التي لا يريدُ أحدٌ سماعَها لكثرة ما يصدح الأمل بصوته العذب في قلوب المقبلين على الحياة.
ومن الأكدار التي تنغص صفو الحياة: الهِرمُ والمرضُ والفقرُ والألمُ والفراقُ والموتُ والتفكيرُ والخوفُ والقلقُ والشقاءُ، إلى غير ذلك من الأمور التي تذهب برونق الحياة وجمالها أدراجَ الرياحِ.
وربما تطرق القرآن إلى ذلك فبين في آيات بينات طبيعة الحياة التي تستهوينا فتنسينا الموتَ نقيضَها الجاثمَ على القلوب المتربصَ بنا رغم سهونا عنه، ها هو قول الله جل في علاه: (واضربْ لهم مثلَ الحياةِ الدنيا كماءٍ أَنْزلناهُ من السماءِ فاختلطَ به نباتُ الأرضِ فأصبحَ هشيمًا تَذروه الرياحُ وكان اللهُ على كلِّ شيءٍ مُقتدِرًا).
يقول القرطبيُّ في تفسير الآية: (قوله تعالى: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيمًا تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرًا، قوله تعالى: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين مثل الحياة الدنيا، أي شبهَها، كماء أنزلناه من السماء فاختلط به أي بالماء، نبات الأرض حتى استوى.
وقيل: إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء، لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر، وقد تقدم هذا المعنى في “يونس” مبينا.
وقالت الحكماء: إنما شبه – تعالى – الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعًا منبتًا، وإذا جاوز المقدار كان ضارًّا مهلكًا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر.
وفي حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أكون من الفائزين، قال: ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يطغي.
وفي صحيح مسلم عن النبي – صلى الله عليه وسلم – : قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما أتاه.
فأصبح أي النبات، هشيمًا أي متكسرًا من اليبس متفتتًا، يعني بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازًا لدلالة الكلام عليه، والهشم: كسر الشيء اليابس، والهشيم من النبات اليابس المتكسر، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم: ما فلان إلا هشيمة كرم، إذا كان سمحا، ورجل هشيم: ضعيف البدن، وتهشم عليه فلان إذا تعطف، واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه، ويقال: هشم الثريد، ومنه سمي هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو، وفيه يقول عبد الله بن الزبعرى:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف.
وكان سبب ذلك أن قريشًا أصابتهم سنون ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، وهشم ذلك الخبز، يعني كسره وثرده، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة، فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم، فسمي بذلك هاشمًا.
تذروه الرياح أي تفرقه، قاله أبو عبيدة، ابن قتيبة: تنسفه، ابن كيسان: تذهب به وتجيء، ابن عباس: تديره، والمعنى متقارب.
وقرأ طلحة بن مصرف “تذريه الرياح”، قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله “تذريه”، يقال: ذرته الريح تذروه ذروًا و [تذريه] ذريًا وأذرته تذريه إذراءً إذا طارت به.
وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته، وأنشد سيبويه والفراء:
فقلت له صوب ولا تجهدنه فيذرك من أخرى القطاة فتزلق.
قوله تعالى: وكان الله على كل شيء مقتدرًا من الإنشاء والإفناء والإحياء، سبحانه).
والخلاصة، فليس في الدنيا نعيم على الحقيقة إنما هو الغرور والوهم الكاذب، وكما قيل: لا مستراح إلا تحت شجرة طوبى، نعم، حيث الخلود الدائم، النعيم الوافر، الشباب الذي لا يخالطه مرض ولا هرم.
والعاقل الذي يفهم ذلك كله حق الفهم لا يطمئن للحياة طرفة عين، وإنما يكون دائم الحذر منها متربصًا بها على الدوام، حتى لا تنسيه بأملها الزائف حقيقة ما ينتظره، فالموت أقرب إلى الأحياء من شِراك النعال، يقول النبي عليه السلام: (مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها).
والذي يتأمل كلمات الحكماء والعارفين عن الحياة يدرك هذه المعاني خير إدراك.
يقول عبد الوهاب الحمادي: أعظم دروس الموت والغربة والأسر وكل انقطاع أن تعلم أنّ الحياة تمضي إلى ما تمضي إليه دون أن تقف لأجل أحد، أن تعلم أنك لست مركز العالم ولا محور الحياة، فتعرف حقيقة نفسك وتلتفت لما ينفعك وتمضي في طريقك وأنت موقن أنك ميت تعيش بين الأموات.
ويقول أحمد خيري العمري: “الله أكبر” لا تلغي حقائق الحياة وشروط الواقع وإشكالته وإرهاصاته، لكنها فقط لا تجعل كل هذا أكبر منها، إنما تكون هي الأكبر.
ويقول علي الطنطاوي: أقرأ لأني كنت أجهل الحياة، فلما عرفتها لم أعد أطيق قراءةً ولا بحثًا.
ويقول عبد السلام إبراهيم: نتخذ في الحياة قررات حاسمة تصبح مكونًا رئيسًا للأقدار.
أما أحمد أبو دهمان فيقول: لكلّ نشاط في القرية غناؤه الخاص، لا أحد يعمل شيئًا دون أن يغني، كنا نغني لكل شيء، كما لو أنه لا يمكن أن يوجد أو أن ينمو شيء بدون غناء، كنا نغنّي لترقص الحياة، وهو ما كانت تفعله دائمًا.
ولعل جمال الحياة يكمن في تناقضاتها الكثيرة، ففيها السعادة والحزن، الضعف والقوة، اللذة والألم، وهذه التناقضات هي التي تجعلها اختبارًا حقيقيًّا صعبًا للإنسان، فلو دامت على حال واحد لما صحَّ أن يُختبر بها أحد.
والذي يتعمق في فلسفة الحياة أو إن شئت فقل فلسفة اللذة والألم يخرج بانطباعات كثيرة للغاية، تجعله أكثرَ وعيًا بطبيعتها وأكثر فهمًا لها.
فالحياة لا تخرج عن إدراك اللذة والألم والتأثر بهما والتعاطي معهما، ولا يوجد فعل وفكر إنساني يتحرك خارج نطاق البحث عن اللذة وتجنب الألم، فهكذا الحياة لا يوجد بها أي حراك إنساني ينطلق خارج قطبي اللذة والألم، فمنهما جاء كل السعي والتطور لتكون كل الإنجازات والاكتشافات والصراعات والحروب.
وعندما نتكلم عن اللذة والألم فإنما نعني كل درجات وأطياف المشاعر الإتسانية المريحة والمزعجة، فاللذة تبدأ بالارتياح والسلام والأمان لترتفع إلى درجات النشوة، وكذلك الألم يبدأ بالخوف والقلق والارتباك ليرتفع إلى أعلى مستويات الإيذاء والتوجع.
يقول سامي لبيب المفكر والباحث المعروف: “لن نفكر بدون ألم يوجعنا أو أمل في ارتياحية لذة، ولن تنطلق آليات الدماغ لتنتج أفكارًا بدون وجود ألم مُدرك أو لذة منشودة ليبحث العقل عن الوسائل التي تجنبه الألم أو تحقق له اللذة وفق ما يمتلكه من معطيات، فنحن لم نصنع مقابض لأواني الطهي إلا من الألم ولم نطور أدوات زراعتنا وصيدنا إلا طلبًا لمزيد من اللذة المتمثلة في الإشباع والأمان، فآلية العقل في التفكير لا تتحرك إلا تحت إلحاح ألم يحاصرنا أو لذة منشودة حصرًا، فلا مكان للتفكير بالسببية والبحث فيها عندما تتطرق لأشياء لا تقترب من لذة أو ألم.
لن يعنينا طبيعة حجر في عطارد ولكن سيعنينا طبيعة حجر في صحراء الحجاز كونه يُنبئ عن وجود نفط أم لا، كذلك لا يعنينا انهيار نجم في مجرة بحجم شمسنا ولكن سيعنينا انهيار بيتنا أو تشرخه، لن يعنينا تصادم مجرة بمجرة أو مصير أجرام يبتلعها ثقب أسود ولكن سيعنينا البحث عن سبب سقوط حجر من أعلى جبل على رؤوسنا أو انهيار جسر، ليكون كل تعاطي العقل في إدراكه للألم واللذة حصرًا بإنتاج أفكار لتجاوز ألم أو تحقيق لذة سواء بفكرة مكوناتها من واقعه المادي الموضوعي أو بفكرة خيالية تقوم بدور تخديري، ليبقى الفرق بين الفكرة التي تستند إلى الوعي بالوجود المادي وتتعاطى معه كمكون وحيد للألم أفضل من الإتكاء على فكرة خيالية أنتجها الدماغ، ففي الأولى لن يتكرر ذات الألم لأننا عالجناه بفهم محدداته والثانية سيتكرر الألم بلا توقف لأننا تجاهلناه وعالجناه بشكل تخديري”.
والحياة تشتمل في معناها ومضمونها على الموت، الفكرة المرعبة للقاصي والداني، المخيفة للناس بمختلف أفكارهم وطوائفهم، وفي النهاية تبقى الحياة رغم وضوحها لغزًا في مضمونها ومعناها، لغزًا أعيا الحكماء وحير العقلاء، وستبقى.

قد يعجبك ايضا
تعليقات