القاهرية
العالم بين يديك

مختارات من الأدب العالمي فانكا “قصة قصيرة لأنطون تشيخوف “

464

رانيا ضيف

في ليلة عيد الميلاد لم ينم الصبيفانكا جوكوفابن الأعوام التسعة والذي أعطوه منذ ثلاثة أشهرللإسكافيالياخينليعمل صبياً لديه. وانتظر حتى انصرف أصحاب البيت والأسطوات إلى الصلاةفأخرج من صوان الإسكافي محبرة وقلماً بسن صدىء ، وفرش أمامه ورقة مجعدة وراح يكتب. وقبل أنيخطأول حرف نظر إلى الباب والنوافذ بحذر، وتطلع بطرف عينه إلى الأيقونة الداكنة التي امتدت علىجانبيهاأرفف محملة بالنعال، وزفر زفيراً متقطعاً. كانت الورقة مبسوطة على الأريكة، أما هو فقد جثاعلى ركبتيهأمامها. وكتب:

‏” جدي العزيزقسطنطين مكاريتش” ! أنا أكتب إليك خطاباً. أهنئكم بعيد الميلاد وأرجو لك من الله كلالخير. أنا ليس لدي أب أو أم، ولم يبق لي غيرك وحدك”.‏

وحولفانكابصره إلى النافذة المظلمة التي عكست ضوء شمعته المتذبذب، وتخيل بوضوح جده ” ‏قسطنطين مكاريتشالذي يعمل حارساً ليليًا لدى السادةآل جيفارف “. و هو عجوز صغير نحيلإلا أنهخفيف الحركة بصورة غير عادية، في حوالي الخامسة والستين، ذو وجه باسم دائمًا وعينين ثملتين. ‏كاننهارًا ينام في مطبخ الخدم أو يثرثر مع الطاهيات، أما في الليل فيطوف حول بيت السادة متدثرابمعطففضفاض من جلد الحمل ويدق على صفيحة. ومن خلفه يسير مطأطىء الرأس مع الكلبة العجوز ‏‏”كاشتانكاوالكلبفيونالذي سمي هكذا للونه الأسود وجسده الطويل كالنمس.‏

كان هذا الـفيونمهذباً ورقيقاً بصورة غير عادية، وكان ينظر بنفس الدرجة من التأثر سواءلأصحابه أمللغرباء، ولكنه لم يكن يحظى بالثقة. كان يخفي تحت تهذيبه واستكانته خبثاً غادرًا إلى أقصىحد. فلم يكنهناك من هو أحسن منه في التلصص في الوقت المناسب ليعض الساق، أو التسلل إلىالمخزن، أو سرقةدجاجة من بيت فلاح. وقد حطموا له ساقيه الخلفيتين ذات مرة، وعلقوه مرتين، وكانوايضربونه كل أسبوعحتى الموت، ولكنه كان يعبث من جديد.‏

وربما يقف الجد الآن أمام البوابة ويزر عينيه وهو يتطلع إلى نوافذ كنيسة القرية الساطعة الحمرة، ويثرثرمع الخدم وهو يدق الأرض بحذائه اللباد. والصفيحة التي يدق عليها معلقة إلى خصره،. ويشيح بيديه ثميتململ من البرد، ويضحك ضحكة عجوز ويقرص الخادم تارة والطاهية تارة أخرى.‏

ويقول وهو يقدم للفلاحات كيس تبغه:

‏- ألا ترغبن في استنشاق التبغ؟

وتستنشق الفلاحات ويعطسن، ويستولي على الجد إعجاب لا يوصف ويقهقه بمرح ويصيح:

‏- بقوة و إلا لزقت!

ويقدمون التبغ للكلاب لتشمه. وتعطسكاشتانكاو تلوي بوزها، وتبتعد مغضبة. أمافيونفلا يعطستأدبا، بل يهز ذيله. والجو رائع. الهواء هادئ، وشفاف ومنعش.‏

والليل حالك ومع ذلك تلوح القرية كلها بأسقف منازلها البيضاء وأعمدة الدخان المنبعثة من المداخن،والأشجار وقد كساها الثلج ثوباً فضياً، وأكوام الثلج. والسماء كلها مرصعة بنجوم تتراقص بمرح، ويبدودرب التبانة واضحاً وكأنما غسلوه قبل العيد ودعكوه بالثلج.. وتنهدفانكا، وغمس الريشة في الحبرومضي يكتب:

‏” بالأمس ضربوني علقة، شدني المعلم من شعري إلى الحوش وضربني بقالب الأحذية لأني كنت أهز ابنهفي المهد فنعست غصبًا عني. وفي هذا الأسبوع أمرتني المعلمة أن أقشر فسيخة، فبدأت أقشرها من ذيلها،فشدت مني الفسيخة وأخذت تحك رأسها في وجهي. والأسطوات يسخرون مني ويرسلونني إلى الخمارةلشراءالفودكاويأمرونني أن أسرق الخيار من بيت المعلم، والمعلم يضربني بكل ما يقع في يده. وليسهناك أي طعام، في الصباح يعطونني خبزاً، وفي الغداء عصيدة، وفي المساء أيضا خبزاً، أما الشاي أوالحساء فالسادة وحدهم يشربونه. ويأمرونني أن أنام في المدخل، وعندما يبكي ابنهم لا أنام أبداً وأهز المهد. ‏يا جدي العزيز، اعمل معروفًا لله وخذني من هنا إلى البيت في القرية. لم أعد أحتمل أبداأتوسل إليكوسوف أصلي لله دائماً، خذني من هنا و إلا سأموت..‏

وقلصفانكاشفتيه ومسح عينيه بقبضته السوداء وأجهش بالبكاء. ومضى يكتب: ” سأطحن لك التبغ،وأصلي لله، وإذا بدر مني شيء اضربني كما يُضرب الكلب. وإذا كنت تظن أنه ليس لي عمل فسأرجوالخوليبحق المسيح أن يأخذني ولو لتنظيف حذائه، أو أعمل راعياً بدلاً منفيدكا” . يا جدي العزيز، لم أعد احتملأبدا، لا شيء سوى الموت. أردت أن أهرب إلى القرية ماشياً ولكن ليس لدي حذاء وأخشىالصقيع، وعندماأصبح كبيراً فسوف أطعمك مقابل هذا ولن أسمح لأحد أن يمسك، وإذا مت يا جديفسأصلي من أجل روحككما أصلي من أجل أميبيلاجيا”. وموسكو مدينة كبيرة.. والبيوت كلها بيوتأكابر، والخيول كثيرة،وليس هناك غنم، والكلاب ليست شريرة. والأولاد في العيد لا يطوفون بالبيوتمنشدين ولا يسمح لأحدبالذهاب للترتيل في الكنيسة. ومرة رأيت في أحد الدكاكين، في الشباك، صنانيرتباع بخيوطها لصيد كلأنواع السمك، عظيمة جداً، بل وتوجد صنارة تتحمل قرموطاً وزنهبوذ”. ورأيتدكاكين فيها مختلف أنواعالبنادق التي تشبه بنادق السادة، ويمكن الواحدة منها تساوي مائة روبل.. وفيدكاكين اللحوم يوجددجاج الغابة وأرانب، ولكن الباعة لا يقولون أين يصطادونها.‏ يا جدي العزيز، عندما يقيم السادة شجرة عيدالميلاد خذ لي جوزة مذهبة وخبئها في الصندوق. قل للآنسة ‏‏” أولجا اجناتيفناأنها من أجلفانكا”.‏

وتنهدفانكاوسمر عينيه في النافذة من جديد. وتذكر أن جده كان دائماً يذهب للغابة لإحضار شجرة عيدالميلاد ويصحب معه حفيده. يا له من عهد سعيد! كان الجد يتنحنح والثلج يتنحنح وفانكايتنحنحمثلهم. ‏وكان يحدث أن الجد، قبل أن يقطع الشجرة، يجلس ليدخن الغليون، ويشم التبغ طويلاً وهو يضحكمن ‏‏”فانكاالمقرور.. وشجيرات عيد الميلاد الشابة تقف متلفعة بالثلج وساكنة وهي تنتظر أيها التيستموت؟وفجأة يمرق أرنب كالسهم عبر أكوام الثلج.. ولا يستطيع الجد أن يمسك نفسه عن الصياح:

‏- امسك، امسك.. امسك!

آه، يا شيطان يا ملعون، ثم يسحب الجد الشجرة المقطوعة إلى منزل السادة، حيث يشرعون في تزيينها.. ‏وكانت الآنسةاولجا اجتاتيفناالتي يحبهافانكا، هي التي تشغله أكثر من الجميع، وعندما كانت أم ‏‏”فانكا” “بيلاجياعلى قيد الحياة كانت تعمل خادمة لدى السادة، كانتاولجا اجتناتيفناتعطيلفانكا” ‏الحلوى، ولما لم يكن لديها ما تعمله فقد علمته القراءة والكتابة والعد حتى مئة، بل وحتى رقصة ‏‏”الكادريل، ولما ماتتبيلاجيا، أرسلوافانكااليتيم إلى جده في المطبخ مع الخدم، ومن المطبخ إلىموسكو عند الاسكافيالياخين”…

ومضى فانكا يكتب: ” احضر يا جدي العزيز، استحلفك بالمسيح أن تأخذني من هنا. أشفق علي أنااليتيمالمسكين، لأن الجميع يضربونني، وأنا جوعان جداً، ولا أستطيع أن أصف لك وحشتي، و أبكي طولالوقت. ومن مدة ضربني المعلم بالنعل على رأسي حتى وقعت ولم أفق إلا بالعافية. ما أضيع حياتي، أسوأمن حياةأي كلب.. تحياتيلاليونا ويجوركا الأحول، والحوذي، ولا تعطالهارمونيكالأحد. حفيدكدائماًايفان جوكوف، احضر يا جدي العزيز”.

وطوىفانكاالورقة المكتوبة أربع مرات ووضعها في مظروف كان قد اشتراه من قبلبكوبيك”.. ‏وفكر قليلاًثم غمس الريشة وكتب العنوان:

إلى قرية جدي

وحك رأسه وفكر، ثم أضافقسطنطين مكاريتش”. وارتدى غطاء الرأس وهو سعيد لأن أحداً لم يعطلهعنالكتابة، ولم يضع المعطف على كتفيه، بل انطلق إلى الخارج بالقميص فقط

كان الباعة في دكان الجزار الذين سألهم من قبل قد أخبروه أن الرسائل تلقى في صناديق البريد، ومنالصناديق تنقل إلى جميع أنحاء الأرض على عربات بريد بحوذية سكارى وأجرس رنانة.

وركضفانكاإلى أول صندوق بريد صادفه، ودس الرسالة الغالية في فتحة الصندوق.

وبعد ساعة كان يغط في نوم عميق وقد هدهدت الآمال الحلوة روحه.. وحلم بالفرن. كان جده جالساً علىالفرن مدلياً ساقيه العريانتين وهو يقرأ الرسالة للطاهيات.. وبجوار الفرن يسيرفيونويهز ذيله .

فانكا قصة قصيرة من الأدب الروسي صدرت عام 1886، كتب القصة أنطون تشيخوف .

استقبل النقاد العمل بشكل مُبهم، وفي الوقت نفسه، من بين معاصري أنطون تشيخوف، أدرج ليوتوليستوي القصة في قائمة قصص تشيخوفالبارزة بشكل خاص“. خلال حياة تشيخوف، أُدرِجَتفانكافي مجموعات القصص والكتب المدرسية، حيث كانت من ضمن كتب القراءة في المرحلة الابتدائية. تُرجِمَت القصة إلى اللغات الألمانية والفرنسية والدنماركية وعدة لغات أوروبية أخرى. من الناحيةالموضوعية، تردد قصةفانكاأصداء قصص عيد الميلاد لأندرسن ودوستويفسكي ديكنز . في عام 1959،صوِّرَت القصة في استوديوهات فيلم غوركي .

قد يعجبك ايضا
تعليقات