سهام سمير
رأيتها لأول مرة في عزاء ابنها، ألحت عليّ جارتي أن نذهب لمواساتها.
لا أعرفها، ولم أتحدث إليها من قبل.
حاولتُ التملص من هذا الواجب الثقيل، لكن لا فائدة.
استقبلنا باب البيت بابتسامة حزينة، وصوت القرآن يصل إلينا ونحن بعد في الدور الأول، صعدنا إلي الدور الرابع، تعرف جارتي كيف تفعل الأمر بسهولة، فيما أنا مرتبكة، أراجع في عقلي الجُمل التي سأقولها ومتى أسكت وإلى أي طبقة تنتمي نبرة صوتي.
كل ما يصاحب العزاء يدعو للحزن، حتى ذلك الشيخ المعمم الذي جلس يعظ الأم المكلومة، ويصف لها بيتها في الجنة إن هي صبرت!
أجد عباراتي ساذجة ومملة بجوار كلماته!
مازلتُ لا أجد مبررًا واحد للموقف الذي زجت بي فيه جارتي.
أتوعدها حين ننتهي من الزيارة ونعود سويًا.
يبدو الزمن متوقفًا عند حزن الأم، ولحظة مرت عليّ الجارة، وعند كلمات الشيخ!
شبكتُ يدي مما أنذر ببداية إرباك لا نهاية له، أعرفُ جيدا أن صوتي لن يعبر حنجرتي، ولن تسمعه الأم في ردائها الأسود المهيب.
تبكي بشجن، فتبكيني معها، كنتُ أتحسب لصراخها، لكن فعلت الدموع الشفيفة معي، نفس ما كانت ستفعله الصرخات التي سمعتها في رأسي فقط!
ربتتُ على كتفها ولم أنطق، توعدتني جارتيّ بنظرة، هل هذا ما اتفقنا عليه!؟
متي ستكبرين؟
لماذا لم يعلو صوتك بالبكاء؟
ونظراتك تلك! النظرة الحزينة هكذا، وراحت تمثل بوجهها أمامي، كيف أفعل، وتندب فشلي في تجربة أداء العزاء!
عدتُ يومها للبيت، وبكيت حرقة بلا أي مرشد، ولا دليل للبكاء.
لم أكن في حاجة لتعليمات كيف تبكي بينما تواسي أحدهم!
بكيتُ هدوء الأم وسكينتها!
بكيتُ عظة الشيخ المعمم وكلماته المنسابة!
بكيتُ الوقت الذي لم يرحم ومر عليّ كجبل بينما أؤدي طقسًا لا صلة له بما أشعر!
تجنبُ لقاء جارتي، كما تجنبتُ الأم المكلومة كذلك.
مرت سنوات، حين جمعنا عزاء ثاني، كنت كبرتُ وعرفت الطقوس جيدًا، لكني لم أفعلها تمامًا كتجربتي الأولى، بل ذهبتُ مباشرة إلى حيث الأم، واحتضنتها، احتضنت السنوات التي مرت دون أن أفعل،المرات التي تجنبت السير في نفس الشارع حتى لا ألمح حزنها.
تخبرني عن تلك السنوات، وكيف أنها استمتع بصحبة أبناء الجيران وأحفادهم، أسرح بخيالي في الذكري البعيدة! ذاك اليوم الحزين.
مرت بعده أيام وسنوات، عاشت الأم فيها كل يوم حدث جديد، تأتي على ذكر ابنها الراحل، أرى نفس سكينة اليوم الأول مغلفة بالرضا.
تأسرني نبرة صوتها الهادئة، أتذكر كيف بُح صوتي يومها ولم أنطق!
أما ما أذهلني، أنها تذكرتني رغم السنوات الطوال، والسكوت المطبق لي يومها، وأني لم أجُد الطقوس كما فعلت جارتنا لكنها تذكرت لمستي لكتفها، ونظرتي الحائرة ساعتها، وأخبرتني أن عزائي وصلها بلا كلمة، ولا أداء طقوس ولا صوت عالي.