القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

خولة بنت الأزور

115
د / زمزم حسن
فارسة عربية كان لها في البطولة والجهاد شأن عظيم، فقد أظهرت في الحرب شجاعة نادرة أذهلت قادة الحرب وفرسان القتال، وأصبحت في القتال والجهاد مضرب أمثال الرجال والنساء .
إنها خولة بنت الأزور بن أوس بن خزيمة الأسدي أخت “ضرار” الفارس المغوار، الذي جاهد في الله حق جهاده، ونصر دين الله في مواطن كثيرة، وأظهر من البطولة ما أدهش العقول وأثار الحمية والنخوة في نفوس الأبطال، فكان من خيرة الرجال الذين خلد التاريخ ذكرهم وأصبحوا مضرب المثل في الشجاعة والإقدام .
جهاد في الشام
اصطحب ضرار أخته “خولة” معه ضمن جيش المسلمين إلى بلاد الشام، حيث اختاره خالد بن الوليد رضي الله عنه قائداً على خمسة آلاف من المجاهدين لإعجابه الشديد به فهو القائل عنه “ضرار رجل لا يخشى الموت، خبير بشؤون الرجال” وهكذا غادرت خولة مع شقيقها الوطن والأهل للجهاد في سبيل الله، حيث كان المسلمون أقل عدداً من الروم، لكنهم أكثر إيماناً وأعظم يقيناً .
عندما وقعت المواجهة بين المسلمين والروم ورأى المجاهدون أن الأعداء أكثر عدداً وعدة تردد بعضهم وفكر في الرجوع، لكن ضرار وهو بطل مقدام استنكر ذلك وظل يقاتل وهو يردد قول الحق سبحانه: “ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير”، ويحمس من خلفه من المجاهدين بقول الحق سبحانه: “يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون” .
قاتل ضرار ومن معه من الأبطال حتى ألحقوا بالأعداء خسائر فادحة وتمكن ضرار من قتل قائدهم “وردان”، وعندما هم بانتزاع رمحه من جسم وردان تجمع عليه عدد من الأعداء فأسروه .
بعد أسر ضرار تسرب الخوف إلى نفوس عدد من المجاهدين ففكروا في الانسحاب من ساحة المعركة، لكن رجلاً شجاعاً هو (رافع بن عميرة الطائي) ثبتهم بقوله: “يا أهل القرآن، إلى أين تريدون؟ أما علمتم أن من ولى ظهره لعدوه فقد باء بغضب من الله وأن الجنة لها أبواب لا تفتح إلا للمجاهدين؟ الصبر الصبر . . الجنة الجنة . . يا أهل القرآن إن كان صاحبكم قد قتل أو أسر فإن الله حي لا يموت، وهو يراكم ويراقبكم” .
وبعد أن سمع المجاهدون هذه الكلمات عادت إليهم الثقة بأنفسهم وفي نصر الله لهم وظلوا يقاتلون حتى كتب الله لهم النصر .
الأسيرة القوية
كان الروم قد تمكنوا من أسر خولة مع عدد من النساء، ووضعت تحت الحراسة حتى تنتهي المعركة، وبعدها يستولي الأعداء الروم على السبايا والأسيرات، لكنها وهي المرأة الحرة الأبية لا يمكن أن تستسلم لذلك ولا تقبل أن تكون لرجل غير زوجها فحرضت ومن معها من النساء على قتال الحراس والتحرر من الأسر، فبعد أن غادر بعض الجنود المكلفين بالحراسة مكان الأسر، وبقي نفر منهم يتولى المهمة فكرت الفارسة ودبرت وعزمت وتوكلت وانتهت إلى قرار حاسم فقالت: “يا بنات العم إن الريح مواتية وإن فرصة الخلاص لتبدو لنا، فها قد حان وقت العمل وإن الموت لأشرف لنا من فضيحة تلحق بنا في آخر الزمان، علينا أن نحمل حملة صادقة تذهل العدو، فننجو أو نستشهد في سبيل الله، خذن أعمدة الخيام والأوتاد في أيديكن ولنحمل معاً على هؤلاء الحراس، ولنتماسك ولنتكاتف ولا تكن بيننا ثغرة ينفذ إلينا منها أحد، أشددن معي، والله معنا والله أكبر” .
قامت النساء يترجمن الأقوال إلى أفعال، فاقتلعن الأعمدة والأوتاد من الخيام، وهجمن على الحراس، فقتل منهم من قتل، وفر من فر، وعادت النساء وعلى رأسهن الفارسة المجاهدة إلى صفوف المسلمين .
فرحة لم تكتمل
اجتمع الشمل من جديد بين المجاهدين والمجاهدات وقاتل الفرسان قتال الأبطال حتى أحرزوا النصر، لكنهم عادوا إلى معسكرهم وصفوفهم خالية من القائد ضرار بن الأزور، فقد أسره الروم بعد أن سجل مشاهد بطولية نادرة في ساحة القتال وقتل قائد الروم “وردان” .
لم تكتمل فرحة “خولة” بالتحرر من الأسر والنصر الذي حققه المقاتلون البواسل على الأعداء، فقد تحررت هي ووقع أخوها في الأسر، وبمشاعر الأخت الوفية لأخيها شعرت بافتقاد “ضرار”، الذي حاربت كثيراً إلى جواره وعادت معه منتصرة وكانت تشاركه آماله وآلامه، تحتفل معه بكل نصر يشاركان في تحقيقه مع جنود الإسلام البواسل .
وفجأة تركت “خولة” مكانها خلف الصفوف، حيث كانت تسقي الجند وتداوي الجرحى، وتقدم المشورة من خلال تجاربها في شؤون الحرب والقتال وركبت فرسها وتقدمت الصفوف، وأخذت على نفسها عهدا ألا تهدأ أو ينام لها جفن إلا بعد أن يعود ضرار إلى قائمة الأحرار .
ظلت تقاتل ببسالة وهي على فرسها بملابسها السوداء ترمي بالرمح وتضرب بالسيف والقوم من حولها يتعجبون من أمر هذا الملثم المغوار، الذي حير الأفكار وجذب الأنظار .
سأل القائد الكبير خالد بن الوليد رضي الله عنه عن اسم هذا الفارس، فلم يدله أحد، فقد رأى الدماء تسيل من تحت الملابس فسأله عن اسمه فلم ترد في المرة الأولى وأعاد السؤال فقالت في أدب المرأة المسلمة: “لقد أعرضت عنك أيها الأمير حياء منك، فاغفر لي صمتي وإصراري على السكوت” وجاء قولها وفعلها تصديقاً لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم “الإيمان بضع وستون شعبة”، والحياء شعبة من الإيمان . قالت الفارسة: أنا خولة بنت الأزور، وأكدت له أنها لن تتوقف عن الجهاد إلا بعد أن يعود أخوها من الأسر .
تحرير ضرار
تحقق النصر وبقي أن يعود ضرار، وأقبل الليل، وأرخى سدوله على أرجاء المكان وأخذت الفارسة تتجول هنا وهناك بحثاً عن أخيها .
وقعت فصيلة من الروم في الأسر، وعلم المسلمون منهم أنهم وضعوا حراسة مشددة على ضرار تتكون من مئة فارس واقتادوه إلى حمص .
تقدم رافع بن عميرة وجنوده بتكليف من خالد بن الوليد لملاحقة جنود الروم، وتحرير ضرار من الأسر، وطلبت خولة من خالد أن تمضي معهم لكنه تردد ثم سمح لها . ووصلوا إلى قرية (سليمة) بعد جهد كبير وسألوا عن جند الروم والأسير العربي وعرفوا طريقهم ومضوا في أثرهم حتى أدركوهم .
أبلى جنود الإسلام بلاء حسناً وفي مقدمتهم الفارسة الملثمة وهزموا أعداءهم شر هزيمة وقتل منهم من قتل وفر من فر .
وقف ضرار يتعجب وينظر في دهشة إلى الفارس الملثم الذي يضرب بسيفه في كل الأنحاء، واستطاع أن يفعل الأعاجيب وتفوق على أقرانه من الفرسان الشجعان، لكن دهشته ما لبثت أن ذهبت عندما علم أنه أخته “خولة بنت الأزور”، فقد عهدها شجاعة مقاتلة لا تخشى الموت وهو عندها أكرم من تدنيس ثيابها وتلويث سمعتها .
رحم الله “خولة” أخت ضرار الفارسة المغوارة التي صحبت أخاها في كثير من المعارك الحربية التي خاضها المسلمون ضد الروم، وكانت تشاركه آلامه وآماله وتشير عليه في وضع خطة القتال بما تراه، وكانت خبيرة بفنون الحرب ومواطن الجهاد ومخادعة العدو وكانت بارعة في ركوب الخيل واستعمال السلاح، وكانت تحرص دائماً على أن تشارك الرجال في القتال، وتكره أن تكون المرأة قعيدة البيت في وقت يحتاجها فيه وطنها .
كانت مع شدتها في ساحة القتال تؤمن بأن الله هو الناصر لدينه والداعم الأكبر لجنود الحق، فالمسلمون يحققون دائماً النصر وهم أقل عدداً وعدة، ولذلك كان قلبها النابض بالإيمان يدفع لسانها الصادق إلى ترجمة هذا الإيمان بمناشدة الخالق بالدعاء الصادق ومما آثر عنها من دعاء في ساحة القتال: “اللهم إن هذه أرضك فلا تمكن منها الذين ينكرون أنك الواحد القهار، اللهم فاجعلها لنا، وأقر بفتحها أعيننا، اللهم إن كنت قد كتبت عليّ الشهادة فاجعل هذه التربة الطاهرة مثواي” .
وهكذا عاشت “خولة” عزيزة كريمة مجاهدة شريفة حتى توفيت في السنة الخامسة والثلاثين من الهجرة في أواخر خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه .
لا يتوفر وصف للصورة.
قد يعجبك ايضا
تعليقات