بقلم محمود أمين
28 نوفمبر – تشرين الثاني 2021
عزيزتي أهلا:
وَيَا نَسِيمَ الصِّبَا بَلِّغْ تَحِيَّتِنَا
مَنْ لَوْ عَلَى الْبُعْدِ حَيًّا كَانَ يحيينا.
ابن زيدون!
النهار أكثر فرجًا وفسحة للنفس وكأنها صفحة بيضاء في أول دفتر نشتريه يغري بينا للكتابة أو الاندفاع والانشغال بخاطرة ستدون في وقت قريب، والأبيض جذاب يا عزيزتي كقلب الذي كتب عينا الانجذاب له أبدًا.
النهار راحة لكل متعب تجاوز الليل بعد أنفاس مرتجفة متقطعة، وصدر يعلو وينخفض من شدة ما يلقى صاحبه من ظلمة هذا الليل وتبعات النفس المتعبة والفكر المشوش.
الليل تكبر فيه النفس في هيبته ولا تحتويه بل يحتويها بظلمته، فتصغر وتصغر وتتمادى في الصغر بعد كبر أصابها أول الأمر ولو فسرنا الأمر لكان الكبر كبر هموم والصغر صغر قيمة؛ حتى الفكرة والخيال لا يستطيعان أن يكونان حبلا نجاة من هذه الحالة الغريبة، وفي صغر النفس ضياع للماهية والقيمة الذاتية وتتحول كل هذه القتامة إلى شعور بالوحدة.
أَجَارَتَنَا إِنَّ الخُطُوبَ تَنُوبُ
وإِنِّي مُقِيمٌ مَاأَقَامَ عَسِيبُ
أَجَارَتَنَا إِنَّا غَرِيبَانِ هَاهُنَا
وكُلُّ غَرِيبٍ لِلغَريبِ نَسِيب
امرؤ القيس!
اليوم هو يوم مولدي ولا يختلف عن أي يوم آخر من هذه السنة غير أني صعدت في سلم الوعي درجة، وزادت أعداد الشعيرات البيضاء غير الملحوظة في فودي، وأقصد بالصعود في سلم الوعي هو حساب النضج تبعًا للمواقف التي مرت بها نفسي، فلم يكن الكبر والنبوغ عندي بالسنين بل بطول التجارب وهل أخطأت التجربة يومًا في زيادة نضج إنسان؟
وحيد الآن وراضٍ جدًا عن هذه الوحدة التي خلفها أناس ثرثارون يملؤن الفراغ صخبًا لا يليق بنفسي الهادئة، وإني أصدقكِ القول يا عزيزتي: أني قبل كتابة هذا السطر الذي يعبر رضًا عن هذه الوحدة أن التشوه كاد يسرق الكلمات العذبة ويبدلها بكلمات أخرى حزينة كالريح التي تمزق الشجرة ورقة ورقة وغصنًا بعد غصنٍ حتى يأتي دور الاقتلاع من فوق الأرض، فتذروه الرياح وأنت أعلم الناس بشجرة باتت كالجذع بعد طول انقلاب واصطدام.
قال امرؤ القيس في حديث وحدته:
أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا اِنجَلي
بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ
امرؤ القيس!
كأن به يصيح صيحة السجين في زنزانة النفس التي لا تنبؤ بأي انفراج، ولو ضاقت النفس تضيق من بعدها الدنيا الفسيحة بأرضها وسمائها، والأسماء تذبل وتموت ولا يفيد الكلام ولا المعاني إلا في سبيل واحد هو الصمت؛ والصمت لا يسعف الأعصاب لتهدأ فتضرب وتتوتر، فهل لهذه النفس من قشة نجاة؟
والشاعر المجروح بوحدة النفس لا تساوي وحدته وحدة الناس ولكنها تزيد وترتفع في خياله كما يطارد السواد بياض القمر فيأفله بعد نور ويوحشه بعد إيناس.
وقد تلمس النفس حدود نفس يحبها لكنه لا يستطيع أن ينقل عالمه إلى عالمها، ولو كان ذلك لما استقر إنسان على ظهر هذه الأرض وارتحل إلى جوار من يحب، والناس بدورهم ملولين يحتاجون إلى التغيير الدائم والمستمر فمن حب هذا اليوم قد تفتر بينهم العلاقة ويظن كل منهم أنهى انتهت لكنها لم تنته وبقيت كامنة حتى تحيها الذكرى، وتكون أكبر حجمًا مما سبق بل أشد تأثيرًا وأعنف حضورًا.
نوفمبر الخريف والأرض تُلقي عن كهلها كل زينة وتصفر صفرة المرض، لكن السماء مزينة بالسحب ومثقلة بالغيوم، كأنها تقول للأرض ها أنا أروي عطشك يا عزيزتي فاصبري جزيتِ خيرًا ، أنا الأرض وأنت السماء فهزي غيومك يا سمائي فإني لا أعلم كم تتحمل هذه الكبد نضب الماء.