القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

حب افتراضي

170

بقلم د. محمد فؤاد منصور

كنت أعرف أنك أنت حتى دون دليل يؤكد ظنوني.. شيء ٌما أطل من عينيك فأسرني رغم أن ما بيننا من صلات لم ينتم يوماً لعالم المحسوسات، لاأنكر أنني جئت أبحث عنك وسط المئات الذين ازدحمت بهم القاعة رغم فقر أدواتي، لا أملك سوى تلك الكلمات التي كانت تبرق على شاشتي كل مساء، تسربت إلى أغوار روحي فأضاءتها ونشرت مساحات النور في أعماقي، هل تكفي تلك الكلمات وحدها لأتعرف عليك وسط هذا الجمع الغفير ؟
حتى لو أضيف إليها صوتك الذي سكب في أعماقي نغمات لايمكن نسيانها مهما امتد الزمن.. صدمتني حقيقة أنك اعتذرت عن الحضور في اللحظات الأخيرة فجلست في الصفوف الخلفية أحصي خسائري وأشيّع بداخلي حلماً لم ير النور..
لم ألمحك للوهلة الأولى لكن صوتك وصل إلى أعماقي حين سمعتك تتحدثين لجارتك همساً، بصمة الصوت التي غرستها في كياني مكالمتك الوحيدة التي حظيت بها، مكالمة افتراضية كذلك حين ألححت في طلب رقم هاتفك دون جدوى، كأنك كنت حريصة على ألا تضعي بين يديّ دليلاً واحداً أستدل به عليك، التقت عينانا، لكنك أشحت بوجهك بعيداً عني حتى لا أتجاسر على توجيه السؤال، كأنك تعلمين مايدور برأسي من ظنون ، لمحت شبح ابتسامة تطوف بزاوية فمك وأنت تتشاغلين بلملمة خصلات شعرك الذي تناثر فغطى وجهك الجميل..
هل كان وجودي مباغتاً ؟ أم أنها كانت مناورة لاختبار مشاعري؟
لابد أنك تعرفت عليّ ففيم كان صمتك ؟ الآن أدركت أنني لم ألح على رؤية صورتك بشكل كاف، وأنني كنت مضطراً لقبول اقتراحك أن أرسم لك صورة من وحي الخيال.. الشعراء يصعدون إلى المنصة بينما السؤال يثور داخلي، لماذا تصمتين ؟ .. لماذا قررت ومن جانب واحد ألا أعرفك في عالم الواقع كما عرفتك في العالم الافتراضي ؟
لم أسمع مما قال الشعراء شيئاً فقد كانت كل هوائيات روحي مجندة لالتقاط مايصلني من همسات ، كذبت نفسي واتهمتها بإدمان الأحلام المستحيلة..
هل أنت أنت .. أم أنني أسرفت في الحلم حتى خنقتني الأضغاث ؟ ..
راجعت كلماتك التي أسرتني والتي أحفظ منها الكثير .. أشعارك، خواطرك، قصصك بكل أطوالها، كنت أراك في كل حرف فلم أكن أحتاج بعدها أن أراك رأي العين وقد تعارفت الأرواح في الفضاء الفسيح، أيقنت أن هذه الكلمات لا يمكن إلا أن تسكنها روح رائعة الحسن..سألتك يوماً
– ألا يمكن أن نلتقي..؟
فكانت إجابتك التي توقعتها
– ألا يكفيك أن تقرأ لي فتراني بين السطور ؟
نعم؛ كان ذلك يكفيني، لكننا ورثة الفضول المقيت، كلما اجتزنا بوابة تطلعنا لما بعدها حتى تسقط كل الحجب، ألسنا أبناء من استمتع بكل الشجر إلا واحدة كان فيها هلاكه؟!
هكذا كنت وأنا أستمع إلى ضحكاتك المكتوبة
– تواضع قليلاً .. ويكفيك أن تسمع صوتي مرة لتراني بخيالك .
وسمعت صوتك مرة واحدة ،لكن تلك النغمات التي تسربت إلى وجداني قد أسرتني وأيقنت أنني هالك أو أراك.. عدت للإلحاح، وعدت للضحك وتخيلتك وأنت تتمايلين خيلاء خلف حاسوبك وتكتبين
– لا تكن طماعاً .. أتحسب أنني أقل منك فضولاً..
ألم يكن ذلك كله كافياً لكي أحبك حباً عميقاً نابعاً من يقين غرسته كلماتك، وسقته عواطف نبيلة تبادلناها ليال ِ ذات عدد ؟
ألم يكن كل ذلك كافياً لأن ألقي إليك ذات مساء كل ماعصف بنفسي من مشاعر في كلمة كأنها قفزة في الفضاء
– نتزوج .
– هكذا دفعة واحدة ، إنك لا تعرفني ولا تعرف سوى حروفي على شاشتك الصماء.
– يكفيني ما أعرفه حتى الآن وأنك من أبحث عنها وقد وجدتها في الفضاء الفسيح.
انطلقت ضحكتك طويلة وصاخبة لتشغل سطرين على شاشة الحاسوب ثم قلت والضحكات تتراقص أمام عيني :
– تريث، فالأمر ليس سهلاً كما تتصور.هل نسيت أن من حقي أن أراك رأي العين وأن أسمع منك وجهاً لوجه لا خلف الشاشة الصماء
– لن أيأس على أي حال.
كانت حجتك منطقية فأذعنت مرغماً،ورحت أعد الأيام الباقية حتى تجمعنا الندوة التي سألقي فيها أشعاري وستجمع كل أصدقائنا في العالم الوهمي، حلمت بأن نتبادل أشعار الغزل أمام الجميع ليكونوا شهود عشقنا المقدس، لكنك تعللت بالحياء وعلّقت الأمر كله على مشجب الظروف .
حاولت أن أتفق معك على لون ملابسك أو شكل حقيبتك، أو أي علامة أستدل بها على وجودك وأتعرف بها عليك لكن ردك ساعتها ألجمني فلم أعرف بماذا أجيب .
– إن لم تعرفني بقلبك فلا ضرورة ساعتها لأن تعرف لون ملابسي.
وها أنا أحاول أن أشحذ حواسي وأستفز قلبي، وقفت بالباب طويلاً أنتظر بعد أن أبلغني المنظمون بعدم حضورك، ساءلت نفسي كثيراً ما الذي منعها ؟ .. أيمكن أن يكون قد حدث لها مكروه ؟ حادث ما منعها من الحضور ..كاد رأسي ينفجر وأنا أستعرض كل الاحتمالات السيئة حتى بدأ الإعلان عن بدء الحفل.
تقاطر الشعراء على المنصة واحداً فواحد وأنا شارد الذهن لا أسمع مما يقولون شيئاً حتى أفقت من شرودي على اسمي يزعق به الميكروفون الداخلي، لملمت أوراقي وصعدت إلى المنصة ألقي أشعاري بينما عيناي تجوبان القاعة بحثاً عنك في نهايتها، كنت أحاول الاندماج بوعي غائب بينما احتشدت نفسي بأسئلة بلا إجابة، ها قد هداني قلبي إليك فماذا تنتظرين ؟ نبرات صوتك الهامس لجارتك مازال صداها يتردد في أعماقي ليتطابق مع صوتك الذي حفره الحاسوب في الذاكرة ولتصبح ظنوني بعدها يقيناً لا فكاك منه.
دوت القاعة بالتصفيق تحية لي بينما حانت مني التفاتة إليك لأجدك تشرئبين بعنقك وترفعين يديك عالياً بتصفيق حاد، عندها زاد يقيني بأنك أنت أنت ولا أحد غيرك فلمَ اعتصمت بالعزلة والسكون رغم أنك صديقة الجميع ؟
ولم أنكرتني بعد كل الوعود الفضائية التي أتتها الفرصة ساعية ؟ ..
عدت ألوم نفسي على التزام الصمت من جانبي ، أكان ينبغي أن أتقدم منك وأسألك مباشرة، إذا ما كنت أنت بالفعل من أبحث عنها ،اسمك يعرفه الجميع ،ماذا لو لم تكوني أنت ؟! ، لعلي خشيت أن يتناولك الرفاق بسوء إذا ألححت في السؤال أو بانت اللهفة في عيوني، فالتزمت صمتاً متفجراً بالفضول ورحت أتشاغل بتحية الضيوف.
كانت تلك حجتي لأقترب من رحابك على استحياء، أردت أن يبدو الأمر منطقياً وعفويا، أن يحيي الشاعر من هنأوه وصفقوا له وأن يتعرف عليهم واقعياً بعد أن عرفهم افتراضياً، ماحدث حين صرت على بعد خطوات منك ألجم لساني فوقفت مكاني أنظر مذهولاً إلى باب الخروج وصديقتك تدفع مقعدك المتحرك أمامها مبتعداً لتغادري المكان في هدوء.

قد يعجبك ايضا
تعليقات