القاهرية
العالم بين يديك

مهاجر زاده الخيال (3)

99

بقلم د.محمد فؤاد منصور

كنت ساهراً ذات ليلة من ليالي رأس السنة كطبيب مناوب باستقبال المستشفى القبطي بالإسكندرية ، المستشفى هو أحد مستشفيات المؤسسة العلاجية التي تقدم خدمات مدفوعة الأجر ، أي أنها كانت مستشفى حكومي خاص في زمن لم تكن فيه المستشفيات الاستثمارية الخاصة قد ظهرت للوجود وانتشرت ذلك الانتشار السرطاني رغم أنف الحكومة ومؤسساتها وأجهزة رقابتها .
ليلة رأس السنة عند أغلب المصريين لها طقوس خاصة وبالنسبة لأطباء المستشفى فقد كانوا جميعاً يرتبون سهراتهم قبلها بأسابيع وربما بشهور وقد واففت على أن أتولى نوبتجية الليل لأنني من جهة لست ممن يهتمون باستقبال السنة الجديدة باحتفالية خاصة ومن جهة ثانية لظني أنها ستكون ليلة هادئة فالناس إما مشغولون بالاحتفال خارج البيوت أو بمتابعة سهرة رأس السنة بالتليفزيون .
كنت أفضل البقاء في المستشفى لأمنح زملائي الأطباء فرصة لاستقبال السنة الجديدة بينما ليس معي في المستشفى غير هيئة تمريض من الراهبات الإيطاليات .
الراهبة يسمونها ” سوريللا ” أي الأخت وقد تعودت أن أجلس معهن ليعلمنني بعض الكلمات الإيطالية، كان عددهن كبيراً بالمستشفى وكن يعرفن القليل من اللغة العربية التي تساعدهن في ممارسة عملهن مع المصريين وكنت مبهوراً بآدائهن الممتاز لعملهن وحرصهن الزائد على راحة المرضى والطواف على غرف المستشفى ليلا لإطفاء الأنوار التي نسيها المرضى أو لإحكام الغطاء على من انزلق عنه الغطاء .
كنت دائماً أتساءل كيف ترك هؤلاء الممرضات وطنهن وهاجرن إلى مصر ليقمن بعمل نبيل كالتمريض ويتفانين فيه وسط ناس ليسوا من جنسهن ، كيف هان عليهن الوطن إلى هذا الحد؟ .
مضت الليلة في بدايتها كما قدرت لها تماماً ، هدوء كامل ، المرضى في غرفهم قد استسلموا لنوم عميق وممرات المستشفى يلفها الصمت والسكينة والضوء الخافت يلف الأماكن كلها وقد غلبني النعاس حينها فقلت للسوريللا المناوبة معي إنني سأتمدد في غرفة الاستراحة الملحقةبالاستقبال فالليلة على مايبدو ستمر بسلام كمانتمنى لها .
استسلمت للنوم عند منتصف الليل ، لكنني فوجئت عند الثانية صباحاًبأضواء الغرفة الساطعة والأضواء تغشي العيون ويد السوريللا تهزني بقوة لتوقظني من نومي..
كنت بملابسي كاملة فنهضت مسرعاً في حزع وصحت وأنا نصف نائم
خير فيه إيه؟
حالة في الاستقبال يادكتور . واحد رأسه مفتوحة . قم بسرعة.
قمت وأنا أسب وألعن فهؤلاء الراهبات في منتهى الرقة مع المرضى لكنهن في منتهى الشدة والحزم مع الأطباء إذا تعلق الأمر بحالة من حالات الطوارئ.
انطلقت إلى غرفة الاستقبال لأجد شاباً يغطي رأسه بقطعة من القطن الطبي المدمم في انتظاري لفحص حالة الجرح ، كان واضحاً من حركاته وهذيانه أنه مخمور تماماً ، بادرني قائلاً :
وحياة والدك يادكتور شوف لي الجرح ده ، أنا عايز أمشي علطول علشان ورايا سفر .
كان يتحاور مع صديقه الذي جاء معه بلهجة سكندرية تماماًغلب عليها السُكر.
نظرت في الجرح وقلت بسيطة بإذن الله هو جرح قطعي صغير سيحتاج غرزتين بعد أن نطمئن على حالتك العامة .
قمت بعمل اللازم وسط هياجه وصياحه ومااعتبرته حينها نتيجة إفراطه في شرب الخمر . كان مماقاله أنه يوناني ولد وتربى في الإسكندرية حتى بلغ سن الالتحاق بالجيش فاضطر للذهاب لليونان ليؤدي الخدمة العسكرية في الجيش اليوناني وأنه يعمل في الشرطة اليونانية التي تمنع عليه شرب الخمر وأنه لهذا جاء لمصر ليسهر ويشرب ويحتفل مع رفاق طفولته ثم يعود لليونان في الصباح ومن سوء حظه ترنح وكاد يسقط وارتطم رأسه بحاجز معدني ..
لم أصدقه أول الأمر فسلوكه ولهجته وهيئته كلها تؤكد أنه مصري ومن حواري الإسكندرية ، لم أصدق إلا حين فتش صديقه المصري چاكتته التي رماها بعيداً واستخرج منها جواز سفره اليوناني وصورته واسمه اليوناني الكامل .
وقتها أدركت كيف يعيش المهاجرون ممزقين بين الوطن الأم ووطن المهجر.

قد يعجبك ايضا
تعليقات