بقلم/ مودَّة ناصر
من الأشياء التي تأسرني في سيرته صلى الله عليه وسلَّم، الصداقةُ بين رسول الله وأبي بكرٍ الصديق -رضي الله عنه-، تلك التي قال عنها رسول الله في آخر أيامه: “إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنتُ متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر”
أبو بكرٍ الصديق الذي غادر أهله وماله وذهب رفيقًا مع الحبيبِ رضي الله عنهما إذ هما في الغار، وقد رُوي في السيرةِ لما انتهيا إلى الغار، قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا فشق إزاره وسدها به، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ادخل، فدخل رسول الله، ووضع رأسه في حجرهِ ونام، فلدغ أبو بكرٍ في رجله من الحجر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله، فسقطت دموعه علىٰ وجه رسول الله، فقال: مالك يا أبا بكر؟، قال: لُدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فذهب ما يجده.”
هذا الرجلُ الصديق، وحينما أعجبُ لصداقةٍ طاهرةٍ مثل هذه أقولُ في نفسي هذا رسولُ الله، هذا رسولُ الله، ولكنَّ صداقة أبي بكرٍ وحبيب الله كانت لأجل الصداقةِ أولاً قبل أن يكون رسول الله،
الصديق الذي آمن بصديقه حين بُعِث، وآمنه على صحبته وماله، كان رفيقهُ في خُطاه كلها، يدفع بنفسه الأذى عن حبيبه، اطمأن إليه الحبيبُ ووضع رأسه في حجره ونام، إذ يقولُ لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه. هذه البشريَّةُ يا الله، السكينةُ بك، وبالرفقةِ التي تُنعِمُ بها على عبادك.
إنسانيةُ الأنبياء تُدهشني دائمًا، حوائجهم التي هي حوائجنا، ولا حاجةً آسرةً قدر رفيقٍ نطمئنُ معه وإليه، وتسيرُ خطانا مؤتنسةً سويًا. الرِفقةُ التي سألها موسى -عليه السلام- ربَّه، فأرسل معه أخاه هارون نبيَّا، والتي صَحِب بها الخضرُ في طريقٍ طويل.
سلامُ الله على حبيبي محمدٍ والصدّيق وموسى.
وكان أبي بكرٍ الصديق -رضي اللهُ عنه- صديقًا يفهمُ صديقه، يعلمُ ويُبصر ما في نفسه دون الناس، فهذا حبيبُ الله قبل وفاته بخمسة أيامٍ بآخر مجلسٍ له على المنبر، اختتم حديثه قائلاً: “إن عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده”. قال أبو سعيد الخدري: فبكىٰ أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- هو المُخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
الصديقُ الذي كان حرصه على رسالة حبيبه وشمل أمته الكريمة لا يقلُّ عن قدر محبته لحبيبه وحزنه العظيم على فراقه صلى الله عليه وسلم، هذا الحزنُ المنير، فحينما تسرَّب النبأ الفادح بوفاة رسول الله، أقبل أبو بكرٍ ودخل المسجد، لم يُكلّم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حِبَرَة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه، فقبلهُ وبكىٰ، ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التى كُتبت عليك فقد مِتَّها.
ثم خرج أبو بكرٍ، وعمر يُكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبىٰ عمر أن يجلس، فتشهد أبو بكر فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر:
أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله، فإن الله حيٌ لا يموت، قال الله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)
قال ابن المسيب: ” قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكرٍ تلاها، فعرفت أنه الحق، فعقرت حتى ما تُقلُّني رجلاي، وحتىٰ أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد مات.”
هذه الصداقة، الرفقة، الحبُّ والأمانُ والونس، هذا رسولُ الله، وهذا أبو بكرٍ، وهذا نحنُ يا الله. أدعو الله كثيرًا كثيرًا أن يهبني صداقةً كصداقةِ أبي بكرٍ ورسول الله، وليس لشيءٍ إلا إن في بَشريتنا هذه الحاجةُ.
كان أبو بكرٍ إنسانًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم تمام الأمةِ في كمالِ إنسانيتها كلها.
واختتم بقول حسان ابن ثابت في مدح أبي بكر:
إذا تذكرت شجوًا من أخي ثقةٍ * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
التالي الثاني المحمود مشهده * وأول الناس طرًا صدق الرسلا
والثاني اثنين في الغار المنيف * وقد طاف العدو به إذ صعَّد الجبلا
وكان حِبَّ رسول الله قد علموا * من البريَّة لم يعدل به رجلا
خير البريّة أتقاها وأرأفها * بعد النبي وأوفاها بما حملا
وما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ أن عقب بقوله:
” صدقت يا حسان، دعوا لي صاحبي ورددها ثلاث “
ولا خير في الدنيا إذا لم يكن بها صديقٌ، صدوقٌ، صادق الوعدِ مُنصفًا،
لا خير..
أشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحمدًا رسول الله.