القاهرية
العالم بين يديك

ركنٌ قَصيٌّ ولحنٌ عنيد.

127

بقلم/ مودَّة ناصر

أراوغ الوقت لأشغلهُ عني، وأُتوّه الفكرةَ كي لا تأتي بكَ إليَّ، أدُسّك بجيْب فؤادي بحيطةٍ كي لا يلحَظك، لكنك تتسربُ منه؛ فتذهبُ إلى الماضي ذكرى، والحاضر فكرة، والقادم حُلمًا. وحاضرٌ أنتَ ببُردةِ الغياب، الغيابُ الذي لا يروح، يُذكّركَ بكونه دائمًا؛ يتلو عليك آياته ويُسمِعُك لحنه، وما إن غفا الغياب، أخذتُ أدندنُ لحنه المألوف، المحفوظُ ببداهةِ الرفقة، وفي اللحنِ أسمعُ صوت بكائي، هذا الذي منعني كبريائي أن أبكيه، كلُّ شيءٍ يبكي إلا أنا، ولو أنَّ الغياب رسالةٌ لكنتَ رسولًا.
بذاكرتي الملعونة من رحمةِ النسيان، -كانت خطيئتها الوحيدة كفرها ببداهةِ الغفران-، سألَتْ -والسؤالُ خطيئةٌ أخرى- : لماذا الغفرانُ واجبٌ؟، ألم يكلِّفُ الله نفسًا إلا وسعها؟، وذاكرتي كصندوقٍ عتيق، صغيرٍ فلا يتفلّتُ منه شيء، آهٍ يا عزيزي، ليتك تنسابُ كلحنِ الغياب.
مازالتُ أحبُّ الحديث إليك، والحديثُ معجزة الوجود، ها أنا أتجولُ بالكلماتِ لتتجول معها وكأنني معك، ليكن سيرُك حانيًا؛ فالكلمةُ رقيقة، الكلمةُ تُميتُ أختها وتُحييها. الآنَ، سأعودُ بك إلى قارعة الطريق،..
في ذاكرتي ركنُتك يا عزيزي برفِّ عُلويّ، وتسلقتُ إليه سُلَّمًا طويلاً من الوعودِ والأيْمانِ بألّا أذكُرك مجددًا، ركنُتكَ وكلَّ أحجيتي التي كتبتها لك، وكانت الأحجيةُ كثيرةً فلم أحررها كلها؛ بقى بعضها ثاويًا في قلبي، لكن سأقتلِعها يومًا وأحفر لها قبرًا؛ لأنّي أحنُّ، وهذه سجيتي، لا مانع أن أزور الأحجية وأبكيها يومًا، حينها سأبكي بكاء اللحن، فهذا بكائي أنا.
ركنتُكَ، وحينما أردتُ النزول، كنتُ أحتاج يديك كي تسنِدني، كي تربِّت عليَّ فأطمئن أنِّي سأنزلُ بسلامٍ آمنة، كنتَ رِفقَتي ورِفقِي حتى في آخر خطواتي إليك؛ اتخذتُ من أحجيتي عنك عكازًا أتوكأُ عليه وأنا أصعدُ السُلَّم؛ كان دَرَج الأيْمانِ والوعودِ ضعيفًا فلم آمن إليه. والآنَ، لا أستطيعُ النزول، أودُّ أن أسكنَ بهذا الرفِّ جواركَ والأحجية.
سهمُ الفراقُ الذي نطلِقهُ أولُ ما يصيب، يصيبُنا، يؤلمني قلبي بشدّة، قلبي كَمَانٌ، والسهمُ عودُه، واللحنُ الآن ينهمرُ بغزارة..
عزيزي،
ما زالتُ أراوغُ الوقت لأشغله عنّي، لكنّك شُغلي الوحيد، سأنزلُ هذا الدرَج يومًا، سيشتدُّ عودي وأنزل وحدي، تُرى هل سأقتاتُ ذكراك حتى أشتدّ؟؛ فإني أخشى الامتلاء بك مجددًا ودائمًا،
ربما كففتُ نفسي عن الكتابة إليك، وكتبتُ لك حديثًا لن تراه، لكن إلى الآن ربما يمكنني الكتابةُ عنك، لأنَّ الفكرة مازالت تعودُ بكَ إليَّ.

قد يعجبك ايضا
تعليقات