القاهرية
العالم بين يديك

كبسولات قصصية

146

رشا فوزي

أنا والشيطان
لاشيء سوى صوت أنفاسي اللاهثة يملأ فراغ الطريق المظلم ويشتت سكونه، أعدو بكل قوتي، فراري منه هي مسألة حياة أو موت، أعلم إنه يلاحقني، أشعر بالشر الرابض في روحه النجسة، الرعب ينهشني؛ إن أدركني هلكت في ظلمة جحيمه الأبدي، لذلك أظل أركض، وأركض، حتى…
– تستيقظين من نومك.
انتزعني صوته من براثن الاستغراق في كابوسي، وإن كانت صوره في الحقيقة لا تفارق مخيلتي، تحطم أعصابي، وتدفعني إلى جنون حتميّ.
فتحت عينيّ المغمضتين، ورحت أنظر إلى طبيبي النفسي الذي تلقفني بملامح وجهه المريحة وابتسامته الهادئة؛ مما هدّئ من روعي، وبطّئ من دقات قلبي المتسارعة. أومأت له إيجابا؛ فاتسعت ابتسامته وهو يسألني:
– هل بمقدورك إخباري عن ماهية الشيء الذي يطاردك في الحلم؟
– إنه الشيطان!
أجبته بلا تردد.
– وما الذي يجعلك متأكدة لهذه الدرجة؟، هل رأيته في حلمك؟
تجلّت الحيرة في مقلتي، بينما أجيبه:
– لا، أنا فقط أعرف!
– هل هناك تفاصيل معينة استرعت انتباهك في هذا الكابوس، مهما كانت صغيرة أو تافهة من وجهة نظرك.
اكتنفت عقلي سحابة ضبابية أربكتني، ما لبث أن برقت شرارة ضوء بداخلها بددتها، فاتضحت صورتها قافزة من عقلي إلى لساني؛ فلفظتها بسرعة:
– باربي.
– باربي؟!
تشبثت بها في خيالي، وأردفت موضحة:
– إنها دميتي التي أهداها لي والداي في عيد ميلادي السابع، لقد أحببتها لدرجة إنها لم تكن تفارقني أبدا حتى ضاعت!
– كيف ضاعت؟
– حقيقة لا أذكر، كل ما أتذكره إنها اختفت وأنا في الحادية عشر من عمري، وقد بحثت عنها كثيرا لكن لم أعثر لها على أثر!
– كيف ترينها في كابوسك؟
أجيبه وأنا أشاهد الصورة جلية بعين خيالي:
– دائما أحتضنها بقوة، حريصة على عدم فقدها، إلا إني في لحظة ما ألاحظ اختفائها، لكن من شدة خوفي لا أبالي وأستمر في الركض، إن لدي شعور يقيني من أنها بحوزة ذلك الشيطان!
صمت، وقد طفح غضبي على صفحة وجهي وصوتي، بينما كان الطبيب يرنو إليّ متأملا انفعالاتي، قبل أن يخاطبني بهدوء حازم :
– سيدتي، إني على تمام الثقة أن ذلك الشيء الذي يطاردك في أحلامك مسببا لكِ كل هذا الهلع إنما هو من الماضي، ربما هو ذكرى، شعور، شخص، أو حتى كلهم معا، وقد قام عقلك الواعي بطمثهم في ذاكرتك حتى يعفيكِ من الألم الذي يسببونه لكِ، إلا إن عقلك الباطن يأبى النسيان ويصر على مواجهة ذلك الشيء.
أُسقِطَ في يدي، اتسعت حدقتاي،وغار قلبي داخل صدري مرتعدا، بينما لم يجرؤ لساني على النطق،وارتجفت دونما إرادة؛ فأذ بالطبيب يترك مقعده دانيا مني، يمسك بيدي مترفّقا، ينظر في عينيّ داعما، في حين احتفظ صوته بنبرته الحازمة وهو يقول:
– لا سبيل آخر؛ إما المواجهة أو الجنون!
طفت بصفحة وجهه برهة؛ قبل أن أغمض عينيّ، ألوك صراعا مع نفسي، لأعود وأبصقه في وجهه:
– وكيف لي بمجابهة مجهول؟
كان رده حاسما:
– جلسة تنويم مغناطيسي!
انجلت موجة من الدخان الكثيف، تصاعدت بعدها حمم بركان غضبي ثائرا، فقد أدركت غريمي.
في المساء كنت أدق جرس باب “الأستاذ مصطفى” مدرس الرياضيات لي بالمرحلة الأعدادية، أتعجب كيف استطاع عقلي محوه رغم كل ما جناه.
انفرج الباب عن شيخ هرم نظر لي ببلاهة، عاجلته بكلماتي بينما نصل سكيني بخفة يداعب عنقه:
– الذئب عادة لا يتذكر ضحاياه.
اتسعت حدقتا عينيه، وارتعشت زاوية فمه والكلمات الخارجة منه:
– كان لهوا بريئا، لم أسلبك شيئا!
– بلى، سلبتني إحساسي بالأمان.
تراجع إلى داخل شقته مذعورا، مصطدما بمقعد خلفه، متهاويا فوقه وقد تعلقت مقلتيه بنصل السكين اللامع في يدي يرتفع وبكل ما بداخلي من غضب وكراهية يشق الهواء هابطا.
لاحقا كنت أتحدث لطبيبي هاتفيا بوجه مشرق:
– لقد ذبحت الشيطان!
أغلقت الهاتف، ضممت “باربي” إلى صدري، وقد علت شفتاي ابتسامة زادت محياي إشراقا، وأنا أتذكر رعب ذلك الخنزير وذهوله وهو يرى السكين تمزق صدر وسادة المقعد إلى جواره عوضا عن صدره!
تمت

قد يعجبك ايضا
تعليقات