القاهرية
العالم بين يديك

اعتياد

143

كتب/ حمادة توفيق.

غيّبَ الموتُ لي زميلًا منذ أيام، رجلًا خمسينيًّا خلوقًا طيبًا، كان يعمل معي في ذات المدرسة التي أعمل فيها معلمًا للغة الإنجليزية، ورغم عظيم الودِّ الذي كان بيني وبينه والاحترام المتبادل والعلاقة التي لم يكن يكدِّرُ صفوَها أيُّ شائبة من الخلاف أو ما كان على شاكلته، لم أهتز لموته، بل ومع كل أسف تلقيتُ خبرَ وفاته بدم بارد كالثلج، وقلب صلد كالحجر، وعين جافة كأنها الأرض البور، وشتان بين زملائي الذين تلقوا الخبر فنزل عليهم كالصاعقة وبيني أنا، إذ لم ترتجف عندي جانحة ولم تهتز لي شعرة بل ولم يرمش لي جفن.
النبي عليه السلام عندما قال: (كفى بالموت واعظًا)، كان يعبر بشكل ضمني عن مدى ما للموت من سطوة وعنفوان يكتنفانه من كل حدب وصوب، ويحيطان به إحاطة السوار بالمعصم، ربما لهذا السبب نرتجف إذا سمعنا ناعيًا أو رأينا جنازة تحملها الأعناق، بيد أني لم أهتز!
أهي الذنوب يا تُرى قد نالت من رقة قلبي؟ ربما، بل لا أستبعد هذا، أهو الاعتياد على الموت الذي شاع أيَّ مشاعٍ وكثُر في الورى حصدًا وأخذًا؟ ربما أيضًا، أهما السببان مجتمعين؟ لا أستبعد، فالسببان كفيلان بقتل الشعور والإحساس، وتجفيف منابع الدموع في المآقي وإن كانت تنهملُ آنفًا بالدموعِ كأنها أفواهُ القِرَبِ، الاعتياد، آه من الاعتياد!
صارت المصيبة طامة للدرجة التي جعلت من الموت أمرًا عاديًّا، فهنا تسمع ناعيًا، وهناك ترى باكيًا، وكما قيل: تعددت الأسباب والموت واحد، فالناس بين ميت بكورونا أو السرطان أو حوادث الطرق أو الانتحار أو حتى بلا سبب على الإطلاق، وهو ما يُسمى بموت الفجأة، ذلك الشكل من الموت الذي يُعدُّ مؤشرًا على دنوِّ القيامة، وما أراها إلا وشيكةً تكاد تُنذر بكِبار علاماتِها، ألم يقل النبي: (بُعِثتُ أنا والساعةُ كهاتينِ وأشارَ بإصبعيهِ السبابةِ والوسطى؟) فما أقربها إذن!
الاعتياد، ما أعظم تأثيره في إماتة القلوب وإخماد المشاعر!
لقد قال الله جل وعلا: (لإيلافِ قريشٍ إيلافهم رحلةَ الشتاءِ والصيفِ)، فلقد اعتادت قريشٌ على تلك الرحلة فنسيت ما لها من فضل وقيمة وصارت أمرًا عاديًّا بالنسبة لها حتى صار تذكيرُهم بها واجبًا.
وهذه طببعة البشر، جُبِلوا على نسيان النعم واعتيادها، وأنا كغيري أرى في كل ناحية ناعيًا وأسمع في كل صقع خبر وفاة، لم يعد الموت بذات الهيبة التي كانت تهزني هزًّا عنيفًا في غابر الأيام.
أنا نفسي ملتاع بلهيب الموت من زمن، ماتت جدتي ثم أخي ثم أبي، وبين سطور الصفحات السوداء تلك قصص أخرى كان يسطرها الموت لأشخاص كنت أعرفهم، صار الموت عاديًّا للدرجة التي أفقدته مذاقه المر، حتى الأحبَّة اندرست آثارهم وصاروا مجردَ ذكرى، لا تراود الخاطر إلا على استحياء!
مات إذن زميلي الفاضل الخلوق، لم أسلْ ولم أدرِ حتى الساعة كيف مات وبأي علة رحل، كنت منذ فترة ليست بالطويلة معه، أراه رأي العين، يتكلم فأسمعه وأتكلم فيشاطرني الحديث، كان بسيطًا طيبًا رقيقًا مهذبًا نقيًا، وكأن الموتَ لا يغيِّبُ إلا الأنقياء.
وها أنا أكتب ما يجول في خاطري والتلفاز مفتوح أمامي، بل وأشاهد مسلسلًا في ذات اللحظات التي أكتب فيها ما تقرؤون، كأن الحديث عن زميل غيبته المنية مجرد عادة هو أيضًا، أو أداء واجب ألوذُ به لأخمدَ ثورةَ ضميرٍ يقظٍ يؤنبني على تلك القسوة وهذه الغِلظة، في الجنة إذن أيها الراحل بإذن الله.
فقدَ الموتُ بريقه في اللحظة التي مات فيها رسول الله، كل المصائب بعد الحبيب جلل، وكل صعب بعد النبي يهون، لقد مات في حجر عائشة بأبي هو وأمي، مات بين سحرها ونحرها، وماتت معه سطوة الموت وعنفوانه، لا ينجو من الموت أحد مهما كان، فالموت يحصد كل الأرواح، والدوام لله الواحد الأحد الفرد الصمد، (كل شيء هالك إلا وجهه) (إنك ميت وإنهم ميتون) (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)، الموت إذن أمر عادي كالحياة، هنا يموت إنسان وهناك يولد آخر، وهذا طبع الدنيا، والسلام لمن رحل!

قد يعجبك ايضا
تعليقات