القاهرية
العالم بين يديك

الوجه المظلم للقمر..كبسولات قصصية

178

#كبسولات_قصصية

رشا فوزي

ما زلت أذكر تلك الليلة القمرية التي جمعتني بوالدي في شرفة منزلنا الرحبة المطلّة على ضفة النهر. كان يبدو مختلفا، لم يكن الأنهاك فقط هو ما يظلل وجهه بعد ليلة صاخبة انقضت احتفالا باليوبيل الذهبي لزواجه بأمي، كنت أرى ظل أسود آخر بثقل حجر ضخم يطبق على ملامحه فيطفيء ألق تلك الليلة وبهجتها في روحه. ولأني أعرفه يمقت الأسئلة التزمت الصمت مكتفيا بالدّنو منه مربتا على كتفه مع ابتسامة حانية تذكّره بوجودي عند الحاجة، وقد أفلحت الحيلة حيث انتبه لي نافضا ظلاله وقد بادل ابتسامتي بابتسامة أشرق لها وجهه، طائفا على محياي بعينيه يحتضن بعطف تفاصيله:
– لقد تزوجنا في سن صغيرة أنا وأمك، وقد انتشلنا الحب من براثن الضياع في مجاهل الجحيم بأعجوبة!
فوجئت بقوله، لكنه غاب مجددا شاردا في بقعة فراغ خلفي يحدق فيها مربد الوجه؛ مما دفعني لا إراديا للالتفات حيث يحدق، لكني لم أجد شيئا ذي بال.
– لم أكن أحب أن أحكي لك تلك الحكاية يوما، لكن يبدو أني مضطر لذلك؛ فالوقت قد أزف!
عدت على صوته أنظر إليه مندهشا، تابع عائدا لغزو الفراغ بعينيه وخياله:
– “كنا أربعة أصدقاء، جمعتنا الجيرة و تشابه الظروف، فنحن أبناء الطبقة الكادحة يحدونا الأمل، يدفعنا الطموح، وتكبلنا قلة حيلة الأهل.
استطعنا باجتهدنا الوصول لكلية علمية مرموقة، لكننا كنا بحاجة للعمل لمعاونة أسرنا في تكاليف دراستنا. في مدرج الكلية قابلناه، لم نعرف حينها ما الذي جذبه فينا ليتقرّب لنا حتى صار خامسنا.
إبن الأكابر الثري، متقد الذكاء، كان لعينيه بريق عجيب يخيفك ويأسرك في آن واحد. انتهز حاجتنا للمال التي لم تكن لتخفى عليه، وعرض علينا ذلك العرض الذي غير حياتنا إلى الأبد.
《 إن للثراء طباع قد يتعجّب لها من هم خارج دائرته، وإن عائلتي منذ أجيال عديدة تعتنق “الكابالا”، تستطيعون اعتباره نوعا من أنواع المذاهب الصوفية، ما يخصكم أن لهذا المذهب مقر تؤدى فيه طقوسه ويجتمع فيه أتباعه، ونحن في حاجة دوما لمن يقوم على خدمتنا، نجزل له العطاء بشرط وحيد؛ لا يرى لا يسمع لا يتكلم، الطاعة والولاء التام”
اعترضنا بالطبع في البداية، لم نكن نعرف عن “الكابالا ” سوى إنها مذهب يهودي، وكان هذا كافيا لأثارة التوجس في قلوبنا ومن ثَم الاعتراض.
لكن كان لأسلوبه في الأقناع تأثيرا ساحرا، وللمال تأثير أكثر سحرا.
《لا تخشون شيئا، ليس المطلوب منكم اتّباعه، أو حتى الاقتناع به، اعتبروا ذلك المقر كنادي سري لحفنة أثرياء، وأنتم مجرد موظفين فيه》
كان ذاك هو الباب الذي ولجنا منه لذلك العالم المريب، نتحسس دربنا فيه بمنتهى الحذر، ملتزمين فيه بعهدنا معه أيما التزام.
وهناك رأيتها، والدتك كانت منهم، بل كانت رفيقته أيضا، أخبرنا ذات مرة بإنها ابنة شريك والده ومن المقرر زواجهما، وعندما سألته إن كان يحبها كان رده ضحكة طويلة قاسية لها صليل ساخر لا زال يرن في أذني كلما تذكرتها.
ما زلت أذكر عينيها كلما ألتقينا مصادفة، تنضح حزنا وتعاسة، ثم بدأت ألاحظ تعلقهما بي وكأنها تستغيث، وهكذا تقاربنا حتى جمعنا الحب بعاطفة قوية وطاهرة.”
صمت والدي فجأة متطلعا إليّ وقد برقت الذكريات في مقلتيه ببريق الجنون، وتابع بصوت متهدج:
– ” كان لا مفر من التخلص منه، زواجه بحبيبتي بالنسبة له ولعائلتيهما هو مجرد قربان لضمان استمرار النفوذ والثروة، وبالنسبة لي ولها موتا حتمي”
ازدرد ريقه ثم أردف:
– ” هي من دلتني على الطريقة، لعنة بولسا دي نورا، كان لابد لأجراءها من وجود خمسة أشخاص على الأقل، أغرت أصدقائي بالمال والسلطان، وفي ليلة بزغ قمرها بوجه دامي، مكّنتنا من دخول قاعة الطقوس وتقديم القرابين المحرمة علينا، بها كتابهم المقدس “السحر الأعظم” وأموال خاصة بالجماعة، جمعناها ثم التففنا في دائرة متشحين السواد حول نجمة سداسية تزينها شموع حمراء مشتعلة، وأخذنا في ترتيل اللعنة كما علمتنا، ثم هربنا متفرقين كلٍ بنصيبه لأقاصي الأرض، وقد بلغنا أنه توفى في حادث قبل انقضاء شهر على تلك الليلة”
كنت ذاهلا في غياهب ما ألقاه والدي على مسامعي، عندما انقض قابضا على كفيّ بعينين زائغتين، ملامح مرتعبة، أنفاس متلاحقة وصوت مرتعش:
– إنهم قادمون، أشعر باقترابهم، لقد دفعت ثمن حبي لوالدتك غاليا، قاموا بقتل جميع أقاربنا أنا وأصدقائي، ثم تتبعوا رفاقي وقتلوهم واحد تلو الآخر، لا أعرف ما الذي منعهم عني؟، ربما حبي لوالدتك، وربما أنت؛ فأنت كوالدتك منهم، بينما أنا سأظل دائما وأبدا خادما خائنا لهم”
وإذ به يفلت يديّ متراجعا عن مكانه، وقد اتسعت حدقتاه هولا بينما يحدق في الفراغ وهو يصرخ متوسلا، وقد ألجمتني الصدمة فتيبست في مكاني كالصنم، أشاهده يشتعل ذاتيا ويذوب جسده في قلب النار، بينما تبزغ لي من العدم ظلال سوداء محدقة بي في صمت!
تمت

قد يعجبك ايضا
تعليقات