المفهوم الشامل للوطن الجزء الثالث

إعداد / محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء الثالث مع المفهوم الشامل للوطن، فإن لخيانة الوطن مظاهر، وظواهر بعضها مرّ على بلادنا فحسم أمره وكبت شره، وبعضها لم يزل قائما يتشكل ويتلون ويخف ويشتد ويبين ويتوارى، وبعضها يظهر باسم الغيرة على الوطن وفي حقيقته غيرة منه، وإن المسلم الحقيقي يكون وفيّا أعظم ما يكون الوفاء لوطنه، محبّا أشد ما يكون الحب له، مستعدا للتضحية دائما في سبيله بنفسه ونفيسه، ورخيصه وغاليه، فحبه لوطنه حب طبيعي مفطور عليه، حب أجل وأسمى من أن ترتقي إليه شبهة أو شك، حب تدعو إليه الفطرة، وترحب به العقيدة، وتؤيده السنة، وتجمع عليه خيار الأمة، فيجب على كل مسلم أن يحب وطنه، ويتفانى في خدمته، ويضحي للدفاع عنه.
فحب الوطن والدفاع عنه لا يحتاج لمساومة ولا يحتاج لمزايدة ولا يحتاج لشعارات رنانة ولا يحتاج لآلاف الكلمات، فإن أفعالنا تشير إلى حبنا، حركاتنا تدل عليه، حروفنا وكلماتنا تنساب إليه، أصواتنا تنطق به، آمالنا تتجه إليه، طموحاتنا ترتبط به، لأجل أرض وأوطان راقت الدماء، لأجل أرض وأوطان تشردت أمم، لأجل أرض وأوطان تحملت الشعوب ألوانا من العذاب، لأجل أن نكون منها وبها ولها، وإليها مطالبون أينما كنا أن نحافظ عليها، فحب الوطن والتضحية من أجله هو واقع يستحق أن نعمل بحب وتفان من أجل المحافظة عليه لأنه أثمن ما في وجودنا وانتمائنا، فالوطن هو التاريخ والحضارة والتراث، وهو الذي سكن جسدنا وروحنا وذاكرتنا.
ومن أجله وخاصة في هذه الفترة العصيبة نحتاج إلى العمل من دون مقابل، لأن الوطن فوق كل شيء، وإن حب الوطن هو فطره ربانيه فى الإنسان وإن هذه سنة الله في المخلوقات فقد جعلها الله في فطرة الإنسان، وإلا فما الذي يجعل الإنسان الذي يعيش في المناطق شديدة الحرارة، والتي قد تصل إلى ستين درجة فوق الصفر، وذلك الذي يعيش في القطب المتجمد الشمالي تحت البرد القارص، أو ذلك الذي يعيش في الغابات والأدغال يعاني من مخاطر الحياة كل يوم، ما الذي جعلهم يتحملون كل ذلك إلا حبهم لوطنهم وديارهم؟ لذلك كان من حق الوطن علينا أن نحبه، وهذا ما أعلنه النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وهو يترك مكة تركا مؤقتا.
فعن عبد الله بن عدي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحزورة من مكه يقول ” والله إنك لخير أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت ” رواه الترمذى، فما أروعها من كلمات، كلمات قالها الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يودع وطنه، إنها تكشف عن حب عميق، وانتماء صادق، وتعلق كبير بالوطن، بمكة المكرمة، بحلها وحرمها، بجبالها ووديانها، برملها وصخورها، بمائها وهوائها، هواؤها عليل ولو كان محملا بالغبار، وماؤها زلال ولو خالطه الأكدار، وتربتها دواء ولو كانت قفارا، فإنها الأرض التي ولد فيها، ونشأ فيها، وشبّ فيها، وتزوج فيها، فيها ذكريات لا تنسى.
فالوطن ذاكرة الإنسان، فيها الأحباب والأصحاب، فيها الآباء والأجداد، وقد قال الغزالي ” والبشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفرا مستوحشا، وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجم، ويغضب له إذا انتقص” ويروى أنه عندما تقدم نابليون نحو الأراضي الروسية بقصد احتلالها، صادف فلاحا يعمل بمنجله في أحد الحقول، فسأله عن أقرب الطرق المؤدية إلى إحدى البلدان بعد أن أعلن له عن شخصيته، فقال له الفلاح ساخرا ” ومن نابليون هذا ؟ إنني لا أعرفه” فقال نابليون غاضبا سوف أجعلك تعرف من أنا، ثم نادى أحد الضباط
Comments (0)
Add Comment