القاهرية
العالم بين يديك

زائِرُ أغسطس

121

بقلم _ حسن محمد 

ليلة أخرى يستقبلها الفتى حاء وحيدا. لا يدري كم الليالي التي قضاها معه. خلال شهر أغسطس كان يأتيه. يجلس. يطلب قهوة سادة. يقف متأملا المكتبة. يفتش بدفاتره وكتبه. يستلُّ كتابا يعجبه كالسيف؛ فتقع الكتب على الأرض.
لا يهتم هذا الزائر المتطفل السخيف بما أحدثه من خراب، كما ترى أنه يفتقد كل أساليب الذوق: فهو لم يستأذن فضلا عن دخوله دون تحية أو سلام.
خاطبه حاءٌ آخذا نفسا عميقا ليستعيد رِباطة جأشه:
-يا مرحبا بك أيها الغريب؛ إن كنت ستجلس وادعا ساكنا. لكن حضورك لا يبشر بالخير، وما فعلته لا أستوعبه، وإن وصفتك بالحماقة فإني أظلم الأحمق، لكني سأتحلّى بالهدوء، وسأصلحُ ما خربتَ..

ولّى شهر أغسطس والحمدلله، كان شهرا ثقيلا على الجميع، لكن ما يدريك أنت أيها الواهم بالجميع؟، ربما لو كنت رجلا احصائيا؛ لذهبتَ تسأل الناس عن شعورهم، فتحسب وتأتي بنسب مئوية؛ لتطمئن بها ذاتك أنك لستَ وحيدا من يعاني اكتئابا أم من يشعر بالحرِّ الخانق؟
ربما لو كان اكتئابُ الجميع سببه الجو، لكان المكيفُ حلًّا جميلًا بالصيف، والمِدفأة بالشتاء. أعرف يا صديقي حاء، أن الكل لا يملك حق شراء مكيف، وأن المِروْحةَ تأتيك بالهواء الساخن. في نعمة أنت تُحسد عليها لو علِمت. فالحرارةُ ستذهب، حتى وإن فقدت السوائل ستعوضها. وإن فقدت الدهون؛ فهذا مفيد لك، وهو أفضل على أي حال من وصل الكهرباء يستلب منك نصف مرتبك آخر الشهر..

إلى أقرب وسيلة مواصلات قِفها واركبْ، حتى لو كان «توكتوكا»، قُل له خُذْني إلى الجهة التي تختص بشؤون التواريخ، وحينما تصل قُل لهم:
-أعطوني قلما أحمرا لكي أعدل بشهر أغسطس.
تتذكر ما رُمي به «طه حسين»؛ تخاف فترجع عن أفكارك الغريبة. لا تقلق. إن رُمِيتَ؛ سيكون نصيبُك الجنون لا محالة، فلن تصل إلى الإلحاد أبدا. وربما ستنشر عنك إحدى الجرائد العريقة خبرا بعنوان عريض: «مجنون يقتحم مقر هيئة التواريخ، يطالب بتعديل شهر أغسطس اسما وأياما». مجنون ذائِعُ الصِّيت، ما المشكلة؟، لا تعبأ يا عزيزي حاء، أنت صاحب قضية.. تعي ما تريد حقا.

لكن صديقي حاء يحب الهدوء، يتجنب المشاكل، يكره القيل والقال، وأن يأتي على رأسه بالمتاعب، فهو لا يمشي بجانب الحائط بل بداخله؛ مما دفعه على تحمل -ما لا يطيقه عقلٌ، ولا يستسيغه قلبٌ- شهرا كاملا، مرّ على قلبه كأنه سنة.
في بداية الشهر قامت بينهما مشاجرات كثيرة، بين الفتى حاء والفتى غين، وسبب الشجار بينهما: يرجع لاختلاف شخصيتهما عن بعض، فالآخر مزعج، والأول هادئ، فكيف يعيشان في غرفة واحدة، وما وجه الحق بأن يجالسه مجلس الصديق، ويشاطره الحديث مشاطرة الحبيب؟

-«إن لم تخرج الآن من غرفتي، سألكُمكَ حتى الموت.. »

قالها في ليلة أغسطسية حارة بحق، تخنق الخنيق، وتملّ الملول، وتعلّ العليل، ثم أردف صائحا:
-دعني وشأني الآن..

كان والديه يشاهدان التلفاز بالصالة. سمعا صوتا عاليا، اعتادا سماع تلك الأصوات، لكنه وحيد بغرفته، استرقا السمع وراء الباب سائلين:
إذًا مع من الصُّراخ، وأخيه بالخارج؟ هل يستذكر دروسه، ونحن في أغسطس؟!

عرفا منه أن كلية علوم تذهب العقول. فحاء لا زال طالبا، وعاقلا بلا شك. همّ الأب بالسؤال، لكن الأم منعته، منذ يومين سألته: مالكَ، فقال: مالي؟، نعم، أراك صامتا لا تكتب، قالت. فسر لها أنه يمر بحالة، يمر بها كل كاتب تُعرف بسدة الكتابة، لكنه يقرأ، كما أن هناك فكرة لرواية لا تبرح عقله وقلبه، فهي شغله الشاغل تلحّ عليه إلحاح الصبي لأمه لحاجة يريدها.

اعتادت أمه أن تعرف حال ابنها حاء، عن طريق كتاباته. التي آثارت شكّها من نصوصه الرومانسية الأخيرة التي كتبها، تقول له مداعبة بنظرة ماكرة: الله، أنت بالطبع تقصد أمك، فيرد متعجبا ضاحكا: بلا شك يا أمي..

-أنت بخير يا بني؟
قال الوالدُ ولم يعبأ بطلب الوالدة.
-نعم.. نعم.. أنا بخير لا تقلق..
رد الولد.

رحل الغريبُ حينما سمع صوت الأب، أو قُل هرول.
فغرق حاء يحدث نفسه: أنا بخير، نعم. لا أدري. ربما.. ونام وهو يسأل: متى سترحل يا أغسطس؟

توالت الأيامُ رتيبةً، مملةً. تعوّد على مجيئه، وجوده الغير مرحب به، ضجته وصوته العالي بالقراءة. أخيرا شهر أغسطس على وشك الانتهاء، سيتخلص من هذا الوغد الذي لا يعرف له اسما، ولا شكلا ولا عنوانا، قال له -وهي المرة الوحيدة التي حدثه فيها- سأخبرك في نهاية الشهر عن حقيقتي، لذا كان يسأل متمنيا: متى سترحل يا أغسطس؛ لذا مرّ الشهر ثقيلا.. ثقيلا جدا.

* * *
قالت له أمه البارحة:
-أتكتب رواية؟
رد مستغربا:
-لمَ؟
فردت مسترسلة بالحديث:
-أخبرتني مِن فترة عن الفكرة اللحوحة لرواية تكتبها، كما أني أسمعك يابني حينا تضحك، فأقول ربما يتجسد بشخصية ساخرة، وحينا أسمع تنهيداتك فأدرك، وأنت الذي لا يبكِ، أنها شخصية حزينة كتومة مثلك..

* * *
لو كان يكتب رواية لأخبرها، لمَ يخفي هذا الخبر عن أمه؛ مبررا لنفسه أنه سيتركها للمفاجأة؟، لن يفعل وتعرف مثل الآخرين. سيخبرها؛ لأنها دعمه الأول وملهمته الأخيرة، هكذا يؤمن ويصدق. فاق من شروده. نظر في النتيجة المعلقة. ابتهج حين قرأ. الثالثون من أغسطس. تنهد فارحا. يوم واحد سيعرف. قام. دخل غرفته. غلق بابه مستأذنا أمه. انتظره يأتي. لم يأتِ. إنها الواحدة صباحا!، تأخر عن موعده اليوم. هل يهرب من الإجابة؟، ربما. لكن أين سيهرب مني يا تُرى؟
نام بلا إجابة، نام دون أن يأتي وغطّ في سُبات عميق، يحلُم…

* * *
-أهلا أهلا.. كيف حالك يا أبو علي؟
-عمي! أوحشتني.. طالت غيبتك.. لم أرَك منذ فترة، أين أنت؟
-حديث طويل يا حبيبي، ربما تواتينا فرصة نتسامر، ونتحدث مثل سابق العهد.
-أنت وحدك!
-لا، انظر يمينا.. هنا مقر الأحباب، هل ستأتي؟
-لا أقدر، فمقعدي منكم يسارا، وما أقربني منكم وأبعدني! هناك سد منيع يحيل بيننا يا عمي..
-كيف حالك؟
-لست بخير.
-مالكَ؟
-أجالس يوميا أحدا يزورني.. لا ينتمي إلى عالم البشر..
-ما شكله؟
-كأنه طيف، لكنه ثقيل.. كأنه نار تحرقني!
-تعرف أني كنت مختصا بعلم النفس..
-لا يا عمي، لست مريضا.. أقول لا تشغل بالك بحال الدنيا..
-هل تغيّب الليلة عن الحضور؟
-نعم، أهناك علاقة؟
-إنه الحنين يابني.. الحنين بلا شك..

* * *

استيقظ من نومه وصوت عمه يتردد بداخل عقله، حقا لم يفكر حاء عن سبب انقطاع الأحلام شهرا عن رؤيتهم. مرّ أسبوع. ظل منتظرا إلى أن يأتي. لم يأتِ؛ رحل الغريب، ربما إلى الأبد. ليلة أخرى سيودعها. سينام والسؤال الذي يباغته كل ليلة بعد رحيله: «كيف يحنُّ المرءُ إلى الغريب الذي يكوي الاضلُعِ؟»

قد يعجبك ايضا
تعليقات