القاهرية
العالم بين يديك

مذكرات مريض نفسي( سدن)

127

بقلم/ سالي جابر

نحكي لنرتاح قليلًا أم لنُوقع أنفسنا في متاهات جديدة لا تنتهي؟!
الكل يحتاج إلى شخص أمين يفضفض معه، يُخرج تلك الشحنة السالبة القابعة بين ضلوعه، تنهش فيه وتشعل به النيران، لتنسلخ عنه تلك الجدران المنيعة التى بناها في لحظات اليأس والخوف، كلنا يهرع إلى النوم هروبًا من الخوف، والبعض يحتاج إلى أقراص تبعده عن الواقع، والآخر- لا إراديًا- يجد نفسه بين غيابات اليأس، يقع في براثن الإثم ولا يبرح إلا وهو منتحر.
هكذا كانت كلمات ( سدن) الفتاة المدللة، وبدأت تحكى عن نفسها أكثر في أولى جلسات العلاج النفسي لها.

– أنا سدن في أواخر العقد الثالث من عمري، مدللة من أبي- رحمه الله – قبل وفاته بقليل تعرضت لحادث أليم مفجع، عانيت معه كثيرًا، شعرت بالعذاب ليالٍ طوال، وما أثقلها تلك الليالي عندما كنت وحيدة، فقد مات والدي إثر خوفه وغضبه على ما حل بي من تشوهات، كنت أعلم أنه يمكنني استعادة جمالي مرة ثانية، إلا أن المرآة وقتها كانت تحثني على البكاء، والخوف المسيطر الذي لا فرار منه، مكثت أبكي كثيرًا عليه، إلى أن ساءت حالتي الجسدية أكثر وأكثر، وقتها تخلى عني خطيبي، انسحب من حياتي تدريجيًا، مكثت وحيدة أفكر هل هذا كان حبًا من البداية، أم أنه الاقتراب من المال والجمال والوجاهة الاجتماعية فقط، فإن والدي قرر أن يمنحه وظيفة جيدة براتب وفير، للأسف رأيت اللعاب يسيل من فمه عندما تلفظ أبي بهذه الكلمات، وتحسنت معاملته معي للحد الذي فرحت به؛ لكني لم أحاول التفكير في الأمر من فرط حبي له، والآن تخلى عني.
– ‏قاطعتها بسؤال تخيلي حتى أستطيع إنهاء الجلسة، فإنها تحتاج إلى أن تحكي كل ما بها، وكأنها بالونة ممتلئة بالهواء، كادت أن تنفجر وأرادت فقط أن تقوم بتخفيف هواءها، الهواء الفاسد الذي يقتل الحياة في أعيننا .
أمامك ثلاثة طرق؛ الأول: مكان مظلم مخيف من الخارج لكن في نهايته كنز، الثاني: طريق ممتلئ بالأشجار وبه حيوانات لا نعلمها، الثالث: بحر بأمواجه العالية التي تتناثر مياهه يمينًا ويسارًا، وعند عبورك للطريق الذي تختارينه تحققين حلمك أو تلاقين المنية.
– أغمضت عيني للحظات وهربت بعض الدموع على خدي، لا يمكنني التفكير، ليس لدي حلم أحاول تحقيقه، وإذا كانت النهاية الموت فكل الطرق لا تهم؛ ربما ألقي بنفسي في البحر لأنهي تلك المأساة؛ لكنني جئت إلى هنا للبحث عن حل حتى لا أُقبل على الانتحار، لا أود أن أخسر الدنيا والآخرة.
– ‏أو ليس حلمك الآن السلام الداخلي، الهدوء النفسي؟!
– ‏لا؛ حلمي فقط أن أستطيع النوم، فكلما أغمضت عيني وجدت أبي يبكي علىَّ، وأن منهارة أقوم بتكسير كل المرايات في المنزل، حتى لا أرى ما حل بىَّ من تشوهات.
– ‏لكنك الآن جميلة.
– ‏بعد التعافي، وبعد وفاة أبي بـ سنة، لجأت إلى طبيب تجميل، وقمت بالعديد من العمليات لأصير هكذا.
– ‏وماذا عن خطيبك؟
– ‏قابلته ذات يوم عند منزلي، ولم تكن صدفة كما كنت أظن، وطلب مني أن نلتقي لنحكي، فتركته واقفًا مذهولًا، ربما يرتاح قلبي عما حل به من خراب بيد هذا الشخص.
– ‏أغمضي عينيكِ، وخذي نفسًا عميقًا وأخرجيه ببطء، عدة مرات، حاولي أن تتخيلي فوق رأسك عصافير تزقزق، وعن يمينك مياه البحر الزرقاء الصافية، وعن يسارك أشجار يافعة
– ‏لايمكنني هذا.
– ‏حسنًا؛ أنتهت الجلسة الآن، نلتقي بعد أسبوع، وفي خلال هذا الأسبوع أريد منك نفس التمرين يوميًا، والبعد عن أي أشخاص أو مواقف تثير الخوف أو الغضب داخلك
…..
وقفت أمام مرآتي أبكي بغزارة، كان لا يمكنني البكاء لفترة من الوقت، كل ما عليَّ فعله هو فقط الصمت، الصمت المدمر الذي كان يقتل أحلامي، حاولت أن أغمض عيني لأفكر في شكلي سابقًا وشكلي حاليًا؛ ربما تعرفت من خلال تلك الحادثة إلى الكثير مما أجهل، مشاعر المحيطين بيَّ، قدرتي على التحمل…؛ لكني فقدت أحب الناس إلى قلبي( أبي) وبقيت في هذا المنزل وحيدة رغم وجود الآخرين، أمي وأختي الصغيرة الفتاة الجميلة المتحملة المسؤلية- كما تحكي عنها أمي دائما- أنا فتاة مدللة؛ بينما هي تتحمل المسؤولية أرادت الدراسة والعمل فقط، خرجت من غرفتي، غسلت وجهي وذهبت لأجلس مع أمي
وكعادتها كانت مشغولة عني بأي شيء وكل شيء يمكن أن يخطر على بال أحد، مواعيد لا تنتهي، هاتف لا تقف رناته، محادثات طويلة عن أهمية الدفاع عن حقوق المرأة في مجتمع ذكوري، ولأول مرة أنصت إلى أمي ثم تركتها ودخلت إلى مكتبها ووجدت كتابًا على مكتبها ربما كانت تقرأه، كان يتحدث عن المرأة ودورها في المجتمع، ومع قراءة أول سطر منه؛ انهمرت عيناي بالدموع، وتساءلت: لماذا أنا فارغة من الداخل هكهذا؟!
لماذا لم تكن لدي هواية، أو عمل، أو أصدقاء؟!
لا حياة لي سوى……. ( وتذكرت خطيبي) الذي تركني في أول رحلة المأساة، أهذا الشخص الذي كنت أتحمل أي شيء لوجوده بجواري؟
هو فقط من أستطيع البكاء في حضرته، حياة الحب الأبدية بين راحتيه، أين ذهب؟ ولماذا تركني؟
يا، أبي أين أنت، ولماذا تركتني حيدة؟!

سقطتُ على الأرض وأنا أحتضن دموعي، ولم يشعر أحد بي، لإني دائمًا لا وجود لي في حياة أحد، كنت أحيا لنفسي فقط، والآن أدفع ثمن ذلك بؤسًا ووحدة.
– دخلت أمي مكتبها، وصرخت تنادي وتحاول أن تحملني، وبكت علىَّ كثيرًا، وفتحت عيني وأنا لا أحلم سوى بضمة بين يديها، بحضن يكفيني شر ما فعلت بنفسي.
ومن هنا بدأت الرحلة على النهج الصحيح، رحلة العلاج بتغير المناخ البيئي.
واعتدل الحال مع أمي وأختي، وذهبت إلى المختص النفسي في الجلسة الثانية، وأن أضع خطة لتغييري؛ وذلك بمساعدة والدتي، حاولت أولًا: تحديد نقاط قوتي للعمل عليها، وتصليح الخراب الذاتي بدافع أنني أستحق.

– خطة ممتازة يا سدن، النقطة الأولى للعلاج هي الإيمان بالذات وأنك تستحقين، تستحقين الحب، الحياة، النجاح، الشعور بالأمل…

– أحيانًا عندما تمر بمشكلة تكسرنا، تضعف يقيننا بأنفسنا، تفتح لنا الباب على مصراعيه؛ لصراع محتوم بين ما نحن عليه الآن وبين حالتنا في سابق عهدنا، فنتحول إلى أشخاص أشد قسوة وضرواة، أشخاص لا نقبلها، أشخاص يبحثون عن هويتهم في صورة كل شخص نتمنى أن نكون مثله، وغالبًا نتحول إلى عدائيين تجاهه، لا نحبه، لا نكرهه، بينما داخلنا مشاعر نمقتها ناحيته، ونمقت أنفسنا معه.
لم يتولد الاضطراب النفسي من فراغ؛ إنما من تحولات قاسية تخلط أحشائنا النفسية ببقايا دمار تحولنا له رغمًا عنا، والبداية الصحيحة هي التقرب من الأشخاص الذين يكنون لنا الحب، لا يبخلون بمشاعرهم تجاهنا، فـ هناك شخص يوفر لكِ الحب، يفرد لكِ قلبه قبل ذراعية، يحميكي من أخطائك، فحينما تجدينه تمسكي به، أخفضي جناحيكِ له، هذا الحب هو ما يحمي من الانزلاق في براثن الفراغ، ومن ثَمَّ الخوف، شخص لا يتركك لفراغك، شخص يحبك بصدق.

قد يعجبك ايضا
تعليقات