قبل كل خذلان أو رحيل كنت أرى بوادره في الأحلام فأستيقظ بقلب فزع فارغ من الطمأنينة، يعتريني القلق وهواجس الأفكار وسؤال يتردد على مسامعي؛ تُرى ممن سأستقبل طردي الجديد من الوجع ؟
رأيتها في حلم امرأة قصيرة القامة، ذات شعر أسود أملس ينساب لبعد كتفيها بقليل، نحيفة تشبه في ملامحها سكان جنوب شرق آسيا تفتح ثلاجتي وتقف أمامها،
تجتذب شيئا من الثلاجة فتقذفني به بِِغِل شديد، لولا أنني اختبأت خلف زوجي وأبعدت رأسي قليلا لاخترقني ذلك الشيء كرصاصة، نجوت في الحلم من غدرها غير المبرر ولكنني لم أنج من غدر صديقة قديمة في الواقع، فتحققت النبوءة ورافقني الحزن والغضب فترة لا بأس بها !
رممت جرح قلبي ورتقته، ومضيت أحمل قلبا مصابا بالخذلان، ولكنني لازلت أومن بجمال وبشرى ستأتي في الرؤى.
تلاشى أثر ذلك الحلم وما قبله عندما وجدت والدي الراحل يقف في الظلام لا أرى سوى وجهه بوضوح، ودموعه تنساب بلا صوت ولا جهد، ينظر إلىّ وأنا متعبة نظرات عاجز عن مد يد العون، استيقظت يومها وأنفاسي متقطعة وكأنني كنت أركض طوال الليل، اجتذبت كوبا من الماء كان جواري وأخذت منه رشفة لأبتلع ذلك الخوف والقلق الذي جثم على صدري وكتم أنفاسي.
لتتحقق بعدها الرؤيا ويرحل أبي الروحي وصديقي، رحل السند بعد أبي، رحل خالي وخلت الحياة من الأمان .
لم يكن الفقد هذه المرة هينا فلم أعرف طعما للنوم على مدار ثلاثة أشهر دون فزع ليلي،
بل لم أتجاوز ذلك الوجع حتى بعد مضي أكثر من اثنى عشرة عاما !
كرهت الأحلام وما أراه فيها بل كرهت النوم ليلا، وكم دعوت ألا أرى في غفواتي ما يفزع قلبي .
قبل تلك الرؤية بعام وشهور قليلة رأيته شابًا في كفنه يجلس في قبره انتفضت من الفزع وأمسكت بهاتفي وكانت الساعة السابعة صباحا وبتوقيت مصر السادسة صباحا فلازال الوقت مبكرا جدا ولكنني لم أستطع التروي وقمت بالاتصال بوالدتي التي أجابت أن كل شيء على ما يرام حينما سألتها
ماما هل أنتم بخير ؟!
ماذا حلَ بكم ؟!
وماذا بصوتك؟
لا تؤاخذيني حبيبتي رأيت حلما مفزعا فأردت الاطمئنان، فالقلق على الأحبة هو قدر المغترب ..
أجابت كلنا بخير حبيبتي ولكن أعاني نزلة برد خفيفة، أنهيت المكالمة ولازال قلبي فارغا من الطمأنينة، لأعلم بعدها بعام كامل أن من رأيته هو ابن خالي وأخي الأكبر ورفيق الطفولة
فقد توفاه الله في ريعان شبابه !
وأجبر خالي كل العائلة أن تخفي عني الأمر .
والمفاجأة أن من قامت بالرد علىّ هي خالتي وليست أمي فتحججت بنزلة البرد لينطلي علىّ اختلاف الصوت الذي لم يكن يختلف كثيرا عن صوت أمي ..
الغريب في الأمر أن قبل تلك الأحداث المدوية
سقطت نخلتان في حديقة منزلنا كانتا مقابلتين لبعضهما البعض فسقطت واحدة يمينا والأخري يسارًا في نفس التوقيت وكأنها رسالة قدرية
عن غياب فردين كانا الثمر والوتد والخير والنماء..
عادت الهواجس تحاصرني مع كل حلم أو رؤية
وأصبحت ألعن شفافية روحي وكرهتها، فلا أريد انتظار الفراق والخيبات وإن كان لابد أن يأتيا فلا داع للمقدمات .
بت أدعو الله أن ينزع عني تلك الشفافية وألا أرى رؤى شبيهة أبدا وقد كان !
أذكر تلك الرؤى دون غيرها من المبشرات لأنها ارتبطت بما يكسر روحي فلا شيء يكسرني مثل غياب الأهل وفراق الأحباب .
قرأت وتعلمت كثيرا عن فك التعلق، وعن الحب غير المشروط وعن طبيعة الحياة وتغيراتها، ولازلت أتعلق !
ولازلت أحب حتى النخاع ولآخر قطرة في دمي ..
لازال اللقاء ينعش روحي فأتطلع إليه ويكسرني الغياب فأهرب منه وأهابه.