كتب/ حمادة توفيق.
بكت بحرقةٍ كأنْ لم تبكِ من قبل، تحوَّلَ بكاؤها لنحيبٍ ونشيجٍ، انهارت وكادت أن تسقط مغشياً عليها، حاولتُ التماسكَ أمامها قدرَ المستطاعِ، لكن لا شكَّ أنّ الذي حدث يؤلمني كما يؤلِمُها، فالذي مات للتوِّ أبي كما هو أبوها.
أبي كان الضحكةَ الرقراقةَ على وجهي، الأملَ الحلوَ في قلبي، السندَ والظهرَ، الماضي والحاضرَ، والمستقبلَ المنتظرَ.
أيُّ كلامٍ عن أبي الحبيبِ عاجزٌ، لا يعبرُ عن مَكانَتِه في قلبي، ولا عن قدرِهِ عندي!
قالت: الخلافاتُ التي كانت بينكما أثرَّت عليكَ بلا شكٍّ، الذي مات أبوك، أبوك.
انهملت عينايَ بالدموع كأنهما السحبُ المواطرُ، جلست يتلقفني المقعد، قلت:
– أعلمُ ذلك، هو أبي بلا شك، أحبه كما تحبينه، وما أثرت الخلافاتُ أبداً في حبي له، فالحزنُ الذي داخلي على رحيلهِ لا يُحتملُ، ولغاتُ الدنيا لا تعبرُ عنه حقَّ التعبيرِ.
سكتت، مرت لحظاتٌ من الصمتِ، دارت عيناها في المنزلِ خلفي، أصابني الرعبُ، قلت:
– ماذا بك يا ريهام؟
لم تنبسِّ ببنتِ شفةٍ، ظلَّ الصمتُ سيدَ الموقفِ، غيرَ أن عينيها اتسعتا، وأصابها وجومٌ كبيرٌ.
– ريهام، تكلمي، ماذا بكِ؟
– رأيت أبي!
قلت مذهولاً:
– أبوكِ مات، دفنته بيديّ من ساعتين، وورايته الثرى بنفسى.
تحركتْ إلى الداخلِ ببطءٍ وحَذَرٍ، وقفتُ أنادي عليها، لم تستمع بل ظلتْ تتحركُ غيرَ خائفةٍ ولا مترددةٍ، تحركتُ خلفها، دخلنا إلى مكتبِ أبي حيث كان يكتبُ مذكراتِهِ في الفترةِ الأخيرة.
أصابتنا الدهشة، وجدنا المذكراتِ مبعثرةً على الأرض، ووجدنا الأقلامَ ملقاةً غيرَ بعيدٍ، اندهشت أختي، قالت:
– لقد رتبتُ مذكراته من دقائق معدودات، والأقلام كانت على المكتب، من الذي فعل هذا؟ وكيف أرى أبي بعدما مات؟
سال الدمع من عينيّ رعباً وهلعاً، قلت لها:
– تهيؤات، والأوراقُ بعثرها الهواء، هذا هو التفسير الوحيد!
فجأة سمعنا ضحكة أبي تُدوِّي في المكان، سقطت أختي مغشياً عليها، بينما أصابني أنا ذهولٌ تامٌّ، تلفتُّ سريعاً إلى مصدرِ الضحكِ، رأيتُ خارجَ البابِ رجلاً في طولِ أبي، ذا رداءٍ أبيضَ، يتحركُ أمامَ البابِ.
ناديت: أبي!
لم أسمع رداً، خرجتُ سريعاً فلم أرَ أحداً، جلستُ والرعبُ يملأُ قلبي، فجأةً رنَّ الهاتفُ، نظرتُ فإذا المتصلُ أبي.
بلغ بي الرعبُ مداه، أجبتُ المتصل:
– ألووو!
– وحشتني يا خالد!
سقط الهاتف من يدي، وسقطت أنا على الأرض، وبعد ساعات أيقظتني أختي، كانت تصرخ وتبكي بكاءً مريراً.
قلت لها: مالك؟
قالت: يجبُ أن نهربَ من البيتِ ونبحثَ عن مكانٍ جديدٍ نعيشُ فيه، البيتُ مسكونٌ يا خالد!
نظرتُ إليها مرعوباً، كان أبي وراءَها يرمقني بعينين باكيتين حمراوين كالنار، وكنت في قمة الرعب والخوف، بينما أختي المسكينة تحدثني بعفويتها المعهودة عنها، ولا تنتبه لوجوده خلفها.
– أبي، أبى!
ضحك ضحكته المعروفة، نظرت فإذا به يتلاشى شيئاً فشيئاً، بينما سقطت أختي مرة أخرى مغشياً عليها.
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية