القاهرية
العالم بين يديك

كبسولات_قصصية شيء من الجنون

123

رشا فوزي

آواخر فصل الشتاء، يمشي بتؤدة على شاطيء البحر الخالي تقريبا من الناس،

مستمتعا بشمسه الحانية في حربها المتأنية مع برودة هواءه، بينما صوت البحر الأثير إلى نفسه؛ يثير بداخله مزيج من الذكريات بين ما هو واضح له وما هو مبهم!

اعتاد رؤيتها تجلس على مقعدها في نفس المكان على الشاطيء في نفس الوقت كل يوم، هي تكبره سنا بالتأكيد، فبينما هو فتى يقف على أعتاب العشرين، يشي جسدها وملامح وجهها بأنها امرأه ربما تجاوزت عقدها الثالث ببضع سنين .

كانت تنظر للبحر باهتمام بالغ، تتابع أمواجه بحرص شديد، وقد ركزت بصرها على بقعة معينة فيه لا تحيد عنها، ترسل لها بين الفنية والفنية ابتسامات وقبلات في الهواء، وأحيانا تلوح لها مع ابتسامة واسعة تشع دفئا ومحبة!

لم يلتفت إلى تلك البقعة؛ فهو متأكد تماما من خلوّها من أي إنسان، لكن ما يثير فضوله سؤال يطرحه عقله كلما رأها ورأى ما يبدر عنها من تصرفات؛ هل هي حقا ليست مدركة لذلك؟!

المنطق يقول أنها بالتأكيد ترى بعين خيالها مَن لا نراه نحن، مسكينة؛ علّه عزيز لديها وقد مات غرقا في هذا المكان، في حين ترفض هي تقبل فكرة موته !

تحت إلحاح هذا الفضول اقترب منها، وخاطبها متلطّفا: 

– صباح الخير.

نظرت له متسائلة:

– هل أعرفُك؟!

عندما التقت عيناهما شعر بألفة غريبة نحوها، لكنه تجاهل ذلك الشعور محاولا طرده من صدره، بينما أجابها بصوت جاهد ألا يبدو مضطربا:

– أراكِ يوميا هنا، يبدو إنك ممن يحبون صحبة البحر في الساعات المبكرة من النهار مثلي.

– بل هو ابني من يعشق السباحة في مثل هذه الساعة .

قالتها مبتسمة باعتزاز شديد، وقد عادت ببصرها للبحر؛ شعر بغصة تعتصر قلبه؛ قرر مجاراتها:

– ما شاء الله، يبدو أنه سباح ماهر !

– ما زال يتعلم.

– كم عمره؟ 

– ثمان سنوات.

– أين والده؟

– في عمله، سيقابلنا على الغذاء. 

لقد كانت تجيبه بعفوية وتلقائية؛ كأنما شاركته إحساسه بالألفة، بينما عينيها ظلّتا على تشبثهما ببقعتها العزيزة، لا تتخليان عنها.

شعر بلوعة تجتاح روحه، وقفزت دموع إلى مقلتيه، لكنه أمسك بزمامها في أخر لحظة حتى لا تفر هاربة إلى وجنتيه، وبصوت مرتعش همس :

– ربنا يحفظه لكِ!

لم تُعر ما قاله أخيرا أي اهتمام؛ بدى له أنها حتى لم تسمعه؛ بل بقيت على حالها؛ مستغرقة في أوهامها.

 ابتعد عنها شاعرا بأسف طاغي حيالها، وأكمل مسيرته يتبعه هدير البحر بعنفوان وشموخ غير مبالي بما قد يسببه لقلوب البشر أحيانا من فواجع و مآسي. 

في حين كانت هناك فتاتين تقفان على بعد منه، تتابعانه باهتمام، بينما تقول أحدهما للأخرى بأسى:

– أما زال يتحدث إليها بعد مرور كل تلك السنوات ؟!

أجابتها الأخرى بعد أن أطلقت زفرة حزن   

حارة:

– نعم، رحمة الله عليها، توفت نتيجة أزمة قلبية مفاجئة؛ بعد أن ظنت غرقه أمامها، لكن المصطافون استطاعوا انقاذه في أخر لحظة، إلا إنه لازمه الشعور بالذنب حيال ذلك؛ يجعله يراها كلما جاء إلى البحر، تجلس على شاطئه، دون أن يدرك أنها والدته، وأنه هو نفسه الطفل ذو الثمان سنوات الذي تنتظر بلهفة خروجه !

 

قد يعجبك ايضا
تعليقات