القاهرية
العالم بين يديك

غيبوبة

147

بقلم/ سالي جابر

اعتقدت أنك تعيش سعيدا لما لديك من قناعات وثوابت؛ لكن وجدت نفسك تعيش في ظلامك الداخلي تنسحب تدريجيًا إلى حياة الظلام والوحدة: بائسٌ، يائسٌ، تعيسٌ ومنكسرٌ. تخفض جناحيك، تروض فكرك، تجنح عن يمينك ويسارك؛ فانقلبت سيارة حياتك ونُقلت أحلامك إلى الإنْعاش، وهنالك تفقد السيطرة على نبضات قلبك، ويخرج عقلك عن الإطار المرسوم له، ويهبك الخروج عن الواقع.
أأردت أن تخرج عن المألوف، لقد تحقق مرادك لكن بصورته التي لا تتمناها أبدًا، فماذا حدث؟!
لقد كنت أسيرُ على حافة الطريق، أَنظرُ إلى المرآة، وأحترس المطبات الصناعية، أتمايل على حافتي الطريق وانحدر معه، مَن تخلص مِن فرامل حياتي هكذا؟ من أسكب البنزين على ملابس نفسيتي؟ من أوقعني في شِراك الخوف؟!
أنا خائف..
تخطو خطواتي إلى الماء لتنزيل اللهب، لكن الهواء أشعل فيها النيران! ألقيت نفسي في بحر الظلام؛ فانفلق نور القمر وأنارت طريقي الملائكةُ الصغار في السماء إلى أن اِهتزّت المياهُ من تحت مركبي؛ فتكسر حُطامه، وتخبط قلبي بين ضلوعه، ووجدت الخوف يهرول عليّ من بعيد، يُعلي إضاءة كشفاته في عيني فلا أرى؛ بل أغمض عيني فحسب.
ومن حولي يرون أن عيني ترمش، وأصابعي تتحرك -فيسعدون بإعادتي للحياة- لكني أغيب عنهم وأعود إلى حياة الخوف واللهب، فأرى شريط حياتي يمر هكذا سريعًا ويتوقف عن محطات بعينيها، أجلس مع كوب شاي ساخن أشاهده وأبتسم على تلك الخيبات التي كنت أتعثر بها وتركت على هامش حياتي تساؤلًا: لماذا كنت أخاف؟
وانسكب الشاي الحارق على أرض الخيال؛ فتوقف الشريط عن المرور وتوقفت هنا قليلًا، وكان هناك مَسارٌ إجباريٌّ وعليّ الالتزام به: لماذا أخاف؟
لكني لم أجد إجابةً، وحاولت إصلاح العطب الذي حال على عضلة الذاكرة ليمر شريط الذكريات، وبعد ساعتين أو أقل أو أكثر من المحاولة مر بسلام، فابتسمت لأنني مررت من نقطة الخوف، لكن هذه السعادة لم تدُم؛ لأن المشاجرة نشبت وحلَ الصراع بين العقل والقلب، كلاهما يدافع عن معتقداته ولا يريد أحدهما التنازل أو المصالحة أو عقد هدنة لحل النزاع. لكن هيهات هيهات، يبقى الغرورُ محطمًا: كصخرة جلمود وسط أعاصير الحياة.
فيجدونني أفيق وأهمهم بعبارات غير مفهومة كنت أنا فقط من يعيها!
ارحل من هنا، هيا أَدْخِلْ المحطة الأخرى، مُرّ من هذا الكابوس، القطار يسير سريعًا كِدت أخشى أنه سيخرج عن القضبان وينقلب وأعود في عِداد الموتى، أشهر بيدٍ تلتف حول يدي، تقبّلها، وتسقط دموع حارة عليها، وأتذكر حينما سقط المطر بقطرات ثلجية فوق أحلامي وكنت أنا وحيدة في شاطىء الجليد، لا شمسٌ لأذوب عشقًا في حرارتها، إنما تحولتُ إلى قطعة ثلجية تمثل الخواء الذي أعيشه، هيا أستيقظي أيتها الجميلة البرتقالية فأنا أتجمد هنا، هيا لا أود أن أموت الآن، وأشعر بأصوات حولي تقول: إن القلب بدأ يعمل، إن للأجهزة جدوى جامّة، احمدوا الله على هذا القدر فهناك أمل. أما آن الوقت يا شمسَ الحُزنِ أن تغربي وتتركنني أحيا؟!

وأجد أني أحملُ -في يدي- زهرةَ صبّارٍ تحيطني بأشواكها ولكني باقٍ عليها لا أعلم لماذا: هل لأتعلم الصبر أم لأني أعتدت الشوك؟! لا أدري إلا أنني أفيق حقًا من غيبوبتي فأعود للحياة مبتسما. ربما لأني فهمت ما لم أكن أعرفه إلا وأنا قيد الموت؛ أقبلوا علي جميعًا يتناوبون القُبّلات على يدي وجبيني، وترتسم ابتسامة ساحرة على شفاههم، ومع كل هذا الحب تمنيت أن أبقى هكذا في علم بالحقيقة المؤلمة التي تودي إلى استبصار الحب حتى وإن كان الثمنُ غيبوبةً.

قد يعجبك ايضا
تعليقات