القاهرية
العالم بين يديك

حديث الدكتور طه حسين يوم الأربعاء: حديث تجرأ وافتراء

135

بقلم_ محمود أمين

لم أقرأ الأجزاء الثلاثة كلها من طبعة المعارف لما أصابني من ضيق وضجر، ومن قرأ الجزء الأول فقد اعتذر!
كلنا محب للحكم على الناس والتنبؤ بما يُتوقع من أفكارهم، والتمحيص والفحص فيما يكتبون، وخاصة إن خالف رأينا الذي ولدنا عليه، والرأي الذي نولد عليه ثابت راسخ لا يتبدل إلا بشق الأنفس، والأهواء تعمل في هذه الحلبة عمل المصارع لا تتوانى في اختبار الأفكار والمعتقدات كأن الله خلقها لتصطفي النافع من الفاسد، والناس في الأهواء سواء غرس الله فينا عملها وسلطانها إلا من روّض نفسه أن تتبع دينه وخلقه وهؤلاء قلة ندر وجودها، لا تجد واحدا منهم إلا بعد ضنًى، والكاتب المحقق المؤلف مستأمَن على ما يكتب ويؤلف، فإن جرة القلم تساوي في عملها هزة السيف، هذا يكتب الحكم وذاك ينفذه، والكاتب الخلوق تجد أخلاقه ومكارمها في كتاباته لا يهدر ويغمط حق أحد، لأن ما يكتب عنهم قد أمسوا أديم أرض فهم خرس لا يتكلمون، ولا يستطيع الميت أن يرد عن نفسه كلمة ولا نصف كلمة، ومن المؤلفين شعبة لا يراعون حق ميت ولا حي ولا حق حيوان، الكتابة لديهم ضرب من التأليف كلما نبه له فكر كتبه ولا يبالي وقع هذه الفكرة على أفهام الدارسين، فقد يضل من بعده بكتاباته هذه وقد يفتن الناس ويسير بهم إلى طريق مظلمة لا هداية بها، وللأهواء سلطان على هؤلاء الكتبة المؤلفين تتحكم في أقلامهم، وتملي عليهم الأفكار فهم عبيد أهوائهم وقد أضاف الله لإبليس جنودا: جنود إبليس، فهم إن صح قولي جنوده، يجالسهم ويصاحبهم ويعشش في عقولهم ويفرخ، وإن الشياطين لتتنزل على كل أفاك أثيم كما قال الله في كتبه الحكيم.
لقد أعمل الدكتور طه فكره وأجهد نفسه في أحاديث أنكر نفسه أولها أن تكون دراسة وبحثا وأثبت آخرها أنها دراسة وبحثا بل خضعت كل كلمة لمعيار نقضه للبضاعة، وقد جاء معظم كلامه يحتمل الشك في تراثنا القديم وفي الرواية: رواية الشعر والأخبار، وهب أنه شك في صدق الأنباء هل تحرك التراث وقفل آيبا إلى التراب وستر نفسه عن الناس، لا والله لقد ازداد الشعر العربي في قول واستشهاد الدكتور رفعة ورونقا لما حوار به فتاه في أول المقالات.
في أولى المقالات يأخذك الدكتور إلى رحلة لذيذة عجيبة لا يخامر الشك فيها أنك تقرأ لمحب من مريدي الشعر العربي القديم، يقنعك بجودة الألفاظ العربية وتركيب الكلمات وتعبير الشاعر القديم الذي لا يماثله تعبير، ثم بعد هذه اللذة لا تستيقظ إلا على شكه في بعض أبيات القصيدة كذا، وأن ترتيب أبياتها يصح أنه معاد ترتيبه من قبل الرواة بل تجرأ على قصيدة لا أذكر لمن ستجدها في الجزء الأول وأعاد ترتيب أبياتها كما يحلو له وقال هكذا أقرب للمعنى وهكذا أقرب لنفسية الشاعر، هب أن الدكتور طه على صواب فهل خفي هذا النبوغ وتلك الحصافة عن علمائنا الأوائل الذين شهد لهم العالم بالقوة والنباهة وبعد الثقافة؟ لا أظن أنه خفي عن علمائنا، ولكنه اتكأ على الرواية الضعيفة ليشتد على الأصيل الرصين، وما هو بالغ شيئا إلا كمن شك في وجد الماء في الأرض لأنه استدل بالبراكين التي تخرج في أرضه.
وستجد في معظم المقالات وخاصة حين ترسو مركب فكرك عند الغزلين؛ تحاليل نفسية وكتابات مزاجية نستطيع أن نلقيها على كل شاعر وكل قصيدة، ويرشح أبياتا لقصيدة كذا ويقول: انظر واقطف عنبا واعصر خمرا، كيف أقطف عنبا بعدما شككت في نسب الشاعر وشككت في وجوده؟ لقد تردد الدكتور بين السماء والأرض فلا أرض قطع ولا سماء ارتفع.
الشفافية مفقودة في معظم المقالات ولا تستند إلا على كلمة ضعيفة لا تتحمل كل هذا وهي: أشك، ولقد وجدتني أتململ بين الكلمات الجميلة في الحكم على الشعر وشرحه وبين الشك في وجودها وأنها من تأليف الرواة، ووجدتني أقول: أين يقف طه حسين بقلمه الخشبي؟ ومن يطارد؟ هل يطارد شبحا في الآفاق لا يراه أحد إلا هو.
عزيزي قارئ هذه الكلمات إن في حديث الأربعاء جنًى بين أقذار، وإن كنت لابد قارئ هذا الكتاب فحط على الجنى واستدبر ما دونه، واقرأ قراءة اليقظ حتى لا تفتنك الكلمات، وفي الكتاب ميزة شرح وتشريح لبعض الأبيات الجميلة التي قل شارح أن يشرح كالدكتور طه.

قد يعجبك ايضا
تعليقات