القاهرية
العالم بين يديك

آفة الرأي العُجْب

177
من يوميات السيد: نابغ خالد
يا فتّاح يا عليم يا رزّاق يا كريم.
هكذا قفزت الكلمات وتسورت شباك صاحبنا «نابغ»، فمررها على عقله في زهو الفلاسفة حين تأتيهم حالات التأمل وهم يشبهونها بآلام المخاض حتى لا يقترب من جماعتهم ضعيف أو جبان، وحبته الفكرة وحب الاطلاع أن يطأطأ رأسه ويسمّع الدوي الذي عرج لأذنيه، فطوى الغرفة في تشوق واهتمام واتكأ على سور بلكونته.
كان الشارع كالعادة يتمطى بالناس في هدوء الليل كالناقة العظيمة في مشيتها تستشعر ثقلها. جلس على قهوة «ليالي المزاج» زبانيتها، وعلى يسار القهوة اتخذ رجلان موضعا لسمرهم ومجلسا لتبديد همومهم وهروبا من نسائهم، وعرضا لمواهبهم في لعب الشطرنج والطاولة، وطول النفس في سحب روح النرجيلة؛ فتتحول عنهم الهموم ساعة ثم تعود بذاتها وأمراض أخرى…. استفتح الكلام المعلم عصام زيكة: وهو سباك ماهر استطاع أن يكسب ود الناس بعمله الجاد الدؤوب. قال موجها الكلام لصديق جلسته الدائم عبده صمولة الميكانيكي: ما بال الأيام تمر مر الريح؟ لم يعد لها قيمة ولا فائدة كأنها أنفاس خفيفة كأنفاس هذا الدخان (قالها وهو يخرج الدخان من فيه)، ثم أن تفاجأ بيوم ثقيل كأنفاس المريض الزَّمِن، وكلا اليومين لا يستويان عندي إلا إذا تلقفني عمل، فأنا أسطّر البلاط كأني أرتب رأسي وأفكاري معها وأخفي رديئها بجميلها، ولا شيء يسعدني إلا منظر الغرفة وقد انتهيت منها وانتهت هي في حالة عجيبة كالفتاة في سن نضج الثمر، فأحمد الله على ما أنا فيه وما علمني من حرفة تكون سببا في جلب رزق ودفع ضرر.
فقاطعه الأوسطى عبده صمولة، وهو من صعيد مصر. تظهر عليه ملامح الأرض الطيبة السمراء، وعلى ثيابه شرف مهنته، يبتسم من قلبه إذا صفا، ويكشر عن أنياب ليث إذا غضب، له عينان بنيتان فيهما ضيق خفيف، وفي شعره حمرة لا تظهر إلا إذا أشرقت الشمس على مفرقه؛ قائلا: جلب الرزق وسببه هذا نعرفه أما دفع الضرر إذا عملنا وأنهكنا العمل فهذا ما لا نعرفه.
فقال المعلم عصام زيكة: لقد تبينت لي حكمة كنت جاهلًا عنها، ووضحت لي فكرة ضنت عن الناس، أما الرزق فلابد من أسباب تطلبه فقطعه الأوسطى عبده: لقد خبرتك أن الرزق نعرفه، فقال المعلم عصام يداعبه: على رسلك يا أوسطى واحدة واحدة حتى لا تَشْرِقُ منك الماكينة، أما دفع الضرر من هذه الناحية التي أحدثك فيها؛ فإن الرجل الصالح العامل إذا دخل في عمله أخذته سكينة وقُذف في قلبه جلال عمله وبركة صنعته، فيكون الزمن في عمله كأنه بنّاء يساعد، ويكون التأريخ في مادته ملاحظٌ يكتب ما أنجزه من عمل، ويكون الصبح عليه كالمسافر يحملنا متاعه من بلد إلى بلد، وقد فهمت أن الإنسان لا يشعر ولا يتنبه للشيء إلا إذا بدأ فيه، ولا يشعر بالوقت ولا قيمة ما صنع ولا حجمه إلا إذا انتهى، فهو في حالة من فكره لا تخرج عن عمل يده، كلما انتهت تركيبة فكّر في أخرى، وكلما ظهرت عقبة فكّر في حلها لينتهي من عمله ويتقاضى أجره، وما قدمت في كلامي واحدة من دفع الضرر، أليس الإنسان من الزمن كالحسابي إذا مر على أرض يقيسها بنظره إن لم يقسها بأمتاره؟ ونحن كذلك إذا فرغنا من عمل أيدينا انتبهنا لعمل رؤوسنا، وعمل الرأس لا يخلو من وساوس وأفكار مفتوحة كالصحراء الفارغة، وكأنك تأتي فكرك مرتويًا وتنقلب عنه ظامئًا، والوهم لا يرقد إلا في رأس الفارغين، والمرأة لا تتكالب إلا على زوجها الخالي من العمل، فتلقنه بلسانها دروسا تشبه مهاجمة الحيات لفرائسها، فلولا الزوجات ما امتلأت المقاهي، ولولا المقاهي والملاهي لانتحر الرجال.
أما الثانية في دفع الضر، فهي تكمن في تفرُّغ المرء من مشغلة فيقع فريسة الكيد والحسد والخديعة، تراه يخرج كل يوم فينظر صاحبه وأخاه عاملا أو متيسرا، فيقول في نفسه: هذا يعمل وأنا لا وأول النار شرر، وهذا شرر الحقد ويتلوه الحسد، فقال له الأوسطى عبده: إنك والله لعالم مُعلِّم، واليوم عرفت كيف بسط الله محبتك في قلوب خلقه، فالله يحب التأمل في وجوده وموجوداتها، وإني لأجد في كلامك نورا لا أجده في أفواه الشيوخ على المنبر، ولقد رأيتني أتقلب في نعيم كلامك كصاحب الملك والمعالي.
وجاءت الحكمة لصاحبنا كأنها تسخر منه ومن أمثاله المتعالين عن الناس، وحينما تأتي الحكمة من العامة تصدع بنور صبرهم وتكون في فتوة عصبهم، فتدل على مواطن الصدق منابع الإيمان، وأن الناس لا ينقطع عنهم نور الحكمة إلا إذا أخذ العُجب أحدهم، فتتطاير عنه الحكمة ورقة أثر ورقة وسطرا خلف سطر.
وقف صاحبا في بلكونته متسمعا رغم توديع الرجلين بعضهما، فقد ذهبوا وأتبعهم بصره، تحتويه حالة من الذهول والدهشة أن سمع هذا الحديث من معلم يرص البلاط ويجاور الرمل والإسمنت، وأشاح بوجهه ناحة غرفته ونظر إلى كتبه وقال: لقد تولد الفكر أمامي دون أن يُذكر عنوان كتاب واحد، ولقد أضنيت نفسي الليالي أبحث وأنقب وأكتب، حتى يعود علي الخير وأحصد ما زرعته، ولكني اليوم أتعلم من الشارع ما خُدعت فيه طوال السنين، وتذكر عَجُزَ بيت يحفظه: إنما العقل بطول التجارب، فاتسعت عيناه لفكرة جديدة وقال: دوني القهوة (ونظر إليها في حماس).
قد يعجبك ايضا
تعليقات