القاهرية
العالم بين يديك

رسائلي إلى الصغيرة

165
بقلم / محمود أمين
عزيزتي الصغيرة تحية طيبة وبعد:
نسمة الصبح تسلم عليك ثلاثا، وتسأل عنك فماذا أقول؟ ندى الصبح يفتقد وجهك بقسماته وبسماته، والرياحين على شرفتي حَبَسَتْ شذا عرفها وأبت أن تطيب الجو وتحمله منها، والصباحات لا تشبه الصباحات القديمة فما بقى لها من أنفاس السحر تبدد في ليل بئيس، والفراشات غائبة لم أرها من يوم غيابك، وضحكات الأطفال وهم يلعبون لا تصل إلى مسمعيّ، والشمس كاسفة لا يصل شعاعها إلى غرفتي فقد تحجبت عنا بحجاب لا تعلمه، هيا تعالي يا عزيزتي خفيفة كالملائكة مرحة كالطفولة عذبة كجريان الماء رشيقة كالظباء، تعالي فالغياب طال والعهد تقطعت حبال وصله تحتاج من يجددها، والليل بات كئيبا بعد أن كان يتغزل بنجماته الغرّ الحسان، وراحتاه ثقيلتان حين يقلب أفكاره، والسماء لا تنظر إليه كعهده الأول، تجافيه وتغض الطرف عنه فعاد ثقيلا أسودَ.
أذكر يومنا الأول كأنه في الأمس، والقلب يحمل صاحبه في لهفة ويسرع به الخطى، والوجود يتسع للعينين رحابة؛ فتذهب في دنيا خيالها تلون ما يحتاج لألوان، وتبرق بالآمال الحالمة، وتمنح النفس جمالا من جمالها، والنفس تعيد النظر في الحزن فتبدده سرابا أثر سراب إلى أن يتلاشى، وتجدد كل قديم وتعيد لذته، بل تعيد للجمال مكانه بين الموجودات.
لقد بسطت يدي فابسطي يدك مالي أمدها ولا أجدك؟ هل أنت حقيقة هذا الوجود فتظهرين كما تظهر الحكمة للمؤمن فتختفين كما تتوارى الحكمة حين يغفل المؤمن عن وجوده، فهو في عجب لا يفتر ولا يلين من لذة الحكمة واختفائها، يبحث عن وجودها في نفسه، ويفتش عنها في الكون كله، لقد أولع بها بل عشقها لأن بها جمال وجوده، فلا تجعليني منك كالفكرة المطروحة تنتظر مفكرها كي يكتبها ويخرجها للنور، فلما يأتي دورها يكتبها في نصه ويتلقفها النسيان بعدها، فيغلق دونها الأبواب ويحجبها بين الأوراق، فقد كانت في الأمس فكرة بين الأفكار تفاخر بحسنها وجمالها، والآن باتت دفينة مقبورة بين الأوراق، فلا رحمة ذاقت ولا ألفة وُهبت.
عزيزتي مرحبا، السلامُ عليكِ يا حكيمة الزمان: أدون لك ما تحبين من الكلمات كي تقع من قلبك موقعا حسنا، أغازلك، وقد كبرنا على الغزل، وشاب فودانا(الْفَوْدُ: هو جانبي الرأس)، واعترانا الهم صغارا، فتناوب على كلينا ينضجنا ويكبرنا بيديه القاسيتين.. أبادلك الكلمات، وأضيف لحياتك معناها ومضمونها، وأعلم أن الكلمة عندك ليس بمعناها بل بما ينطبع منها في النفس، وما يدور من لفظها جرس في الأذن، يا الله كم أحب رسائلك وما تكتبين يا عزيزتي، ولشد علي أن يُضرب الذكر عنا صفحا، فنُمسي ذكرى بعيدة ثقيلة في قولها، مؤلمة في بثها، فاكتبي لي كي تعود الصباحات والنسمات.
كنت أقرأ اليوم للدكتور طه حسين: على غير العادة أعلم أن هذا سيكون قولك حين تبلغين الاسم، ولكني اكتسبت خصلة جديدة، وهي أن أقرأ لمن أحب ولمن لا أحب، وقد فرض علينا الدهر أن نقرأ الغث والرديء فمن باب أولى أن نقرأ للكتاب الكبار، ونتعرف على المذاهب المختلفة التي أحاطت بمن نحب، وقد كان الدكتور طه في كتابه –حديث الأربعاء- عظيم الأثر في نفسي: لأنه بدّل كثيرا مما كنّا نظنه فيه؛ فهو المدافع عن الأدب القديم في كلماته أنقلها لك بحرفه ونصه: «إني أجد في هذا الشعر وهذه الكتب –يقصد القديم- متاعا لا أجده في هذا الأدب الحديث»، وقد اقتبست منه كثيرا من الاقتباسات تجدينها حين يصلك الكتاب بإذن الله.
وها أنا قد أطلت عليك والليل أثقل عليّ أراه يتمطى وقد تملكه النعاس فزاد من الوحشة رِعدة في الجسد نجدها في الشتاء؛ ولم أكتب سطرا واحدا مما كنت أريد أن أكتبه لك، فالمعذرة عندك مرجوة، والعفو عندك مأمول لعلي في الرسالة التالية أكتب لك، كوني بخير والسلام.
قد يعجبك ايضا
تعليقات