القاهرية
العالم بين يديك

رسائلي إلى الصغيرة

112

بقلم – محمود أمين

العصافير تغرد سائلة عنك، والقلب يحاكي رفرفتها بنبضاته، والعين تتبعهم ملتهفة لذكرى اللقاء، والثغر باسم رغم كل ما نلاقيه:
سلامٌ أنتِ!
تحية محزون ودعته الأفراح ونسيه السرور يوم غبت عنه، ولا عمل له سوى النظر لما خلفته من جرح عميق، يجد الصعوبة في لمه أو ضمه أو خياطته تلك أوصاف تبرئ جراح الجسد، وما أحدثتِه من جُرح كان في الروح باقيَ الأثر فلا منظر له ولا هيئة، كنت أنظر ليديك إذا اجتمعنا وأقول في صمتي: ما أجمل تلك اليدين الناعمتين الصغيرتين وما أحلى تلك الأصابع الملفوفة وأطرافها الوردية، لم أتصور أن بوسع هاتين اليدين ذبح روحي، وتركها مدرجة بالدمع فطالما أعتقد أن الدم من الجسد كالدمع للروح، لقد أسرفتُ في وصف طعنتك النجلاء، ونسيت حبك الوارف الأخضر الذي يميد كلما خطرتِ ببالي أو ذكركِ الذاكرون، ماذا عليك لو جئتِ يومًا فيلتئم الجرح وتطيب النفس؟ ثم هل في تلك الخطوات إثم؟ يا صاحبة الخطوات الثابتة والأيدي الناعمة الماهرة في تطيب الجراح يا حكيمة الزمان، لقد عظُم عندك يوم جاءتْ خطابتك لي أن تكسري الكلمات حبًّا وكرامةً، فالحال تبدل والكلمات مُحيت من الذاكرة وبقي الألم وحده، بقي الوهم الذي يضيِّق على نفسي إهابها، ضياء الشمس يشرق كل صباح فلا عمل له في ظلام هذا الوهم، وسواد الليل ينكفئ في مشيته فيزيد من جرمه وغطرسته في الوقوع؛ فيزيد الوهم ظلامًا وثِقَلًا كأن الليل جبل يخرّ بكل سطوته على قلبي المثقل، فالناس تنتظر الليل لتلبس فيه النوم أجسادها، والليل يأتي ولا نوم فيه ولا نشاط، لا أعلم لمَ أدون لك تلك الكلمات الموجعة غير أني أعلم أنك الوحيدة التي تملك هَبَّةَ الصبح ونسماته الرقيقة، ما زالت جعبتُك تلتهم الخضرة من حولي وتختلس البسمات العذاب، وتجفف الجداول، وتقتل حمرة الشفق، وتوقف الموجات في البحر، كنت مولعة بحب الجمال وأنا أجدك مولعة بجمع الجمال: فما بقى من جمالي بعد أخذك إلا حديث خرافة، وهل العيش في بيئة مسروقة الجمال معطلة الألفة يعد عيشا، وقد كانت الحياة تقطر عسلا فيه شفاء لقلبينا، كم أودّ رأيتك يا عزيزتي كي أقتل من نفسك بما مات في نفسي، وأقيم عيد محرقة كما يقيمها الهنود، فنطير دخانا يتمايل ويتراقص ويرف رفيفه في سماوات الله فلا يفصلنا فاصل.
لله ما أخذ ولله ما أبقى من هذا القلب المتبدد في جنوب الأرض وغربها، لقد أُحصيت علي الأماكن التي أزورها والكتابات التي أكتبها، فلا مزيد ولا جديد كالدالف دائرة فلا ينتهي إلا حيث بدأ، جديده أصبح مكررا، واكتشافاته ذهبت بريقها، وخطواته حملها الأمل في البداية وحين التكرار يجرها الغضب والحنق، ولو سار بالعكس وقفل راجعا، لتكررت دهشته وتعدد عذابه ولكنه بالعكس.
لماذا يغيب المحب عن أرض حبيبه؟ أعلم لماذا: لأنه لو رآه لحذفه بالحجارة وطرده بالهجاء وواجهه بسيئ أخلاقه وأراه من نفسه نفسا لم يكن يتخيلها، وهكذا كتب الله على المحبين الانقطاع وبُعد الديار فيما بينهما، ولو كان المحب نبيلا في مشاعره بريئا بأخلاقه وقابل حبيبه؛ لشق عليه هذا اللقاء، وللذعته مشاعر القطيعة، وذبحته سكاكين الذكرى، وكوته كل نظرة كما كانوا يطهرون الجراح بالنار والكي، ولكان اللقاء لقاء قِدر من الزيت أوقدت عليه النار وحفنة من البطاطاس تنش نشيشها وقد ألقيت في الزيت المغلي، وما الإنسان إلا لحم ودم وقد تقوى البطاطس على الزيت المغلي ولا يقوى عليه جلد الإنسان فما بالك من إحساسه، ولقالتِ العينان مقالةَ الشاعر: رامياتٍ بأسهمٍ ريشُها الهدبُ شققنَ القلوبَ قبلَ الجلودِ، والقلب يتبع العين وبينهما إِلف قديم.
حقا تتعبني الكتابة لك، وأروم لو اختفت آثارك من نفسي بكيّة أو لسعة نار، فإني أعتقد هوان الكي من شدة ما ألاقيه من جراحات أمرك، يا أيها الوهم السامق والألم الباقي والصمت الجميل.

قد يعجبك ايضا
تعليقات