القاهرية
العالم بين يديك

القلب غمد الذكريات 2

124
بقلم /محمود أمين
الأحداث اليومية لا تمتد إلى اليوم التالي، والذكريات تعبث من بين الفينة والأخرى بالقلب، فتنكأ الجرح بعد اندماله، وتوقظ الشوق بعد نومه، والإنسان بطبيعته ينسى وينام وهو يطرد الأفكار الموحشة، ويقاتلها بكل ما أوتي من قوة بسيف التجاوز والتغافل، فيطمر الأفكار المزعجة ولا يقلبها أمامه: هذا إن كان ذا قلب شفاف توجعه الذكرى، وقد كان فيما مضى يقبض على الذكرى خوف نسيانها ووفاء بالعهد، ولكن القبض عليها كان أشبه بالقبض على الزجاج المتكسر فالناظر ليديه لا يغفل عن رؤية ندباتها وتشققاتها هذه اليد فما بالك بالقلب وهو غمد الذكريات.
المحب لا يفكر فيما هو آتٍ ويغفل عن ساعات المستقبل، فهو رب اللحظة واللذة أمام عين من يحب، هو فارس اللحظة وطائر يشدو على فنن من المودة والأمان المستقر، وإذا قفل كل منه إلى بيته؛ استحضر بخياله تلك اللحظات الجميلة التي كانت بينه وبين من يحب، فهو سجين خياله، وفقيد اللحظة الواقعية التي هو ابنها، وهو من بعد ذلك يضيف إلى المحبوب من خياله خيالات ليست في البشر، فوجهها في خياله كوجه حور الجنان، وكلامها كلام شاعر، وحركاتها كحركات الشادن المروّع، وعيناها عين سحر أخاذة فاعلة به ما تفعله الخمر من سكر وطرب، وإذا أفاق من رقدته تلك على حقائق الواقع وصدماته قال: واحرّ قلباه، وانقلبت لذته حسرة في جوفه تسعر النار فيها كاستعارها في الهشيم، فلا الخيالات لطيفة عليه ولا الواقع يرش دلو ماء على ناره، فهو المسكين القتيل بأيد ناعمة ظن فيها نجاته.
هذا؛ إلى أن يأتي حبيبه يبرئ جرحه ويضمده، ويقوّم من خياله خيال من يحب، ويسقيه من برد عينه نظرات فيها الشفاء، ويغدق عليه من عطفه وحنانه ما لا تفعله الأم لابنها الخائف، ويقول له: نجوت وأنت آمن في جواري، فالمحب بدون حبيبه كالقلب دون الضلوع، والحبيب دون محبه كالضلوع انطوت على لا شيء.
قد يعجبك ايضا
تعليقات