القاهرية
العالم بين يديك

أسوأ ما في الحب

121

بقلم/حسن محمد

-هاا المنيو جه.. هتشربي إيه؟
-عادي اطلبلي معاك اللي تجيبه..
-آااه، حيرة كل مرة هنشرب إيه..

تلاقت عيناهما في نظرة ماكرة ممزوجة بالسخرية، فارتسمت على شفتيهما ابتسامة، فأكمل ضاحكا:
-لا، لا ورحمة جدي ما شارب شاي..
-خلاص هاتلنا مانجا..
-مانجا! هو إنتِ خطيبتي وأنا معرفش! اجبلك تشيز كيك يا روحي!
-وإنت تطول يا بني..
-أطوول وينوص..

ضحكا ثم عاد الصمت يشوب المكان إلا من صوت هدير موج البحر وحديث الجالسين:
-حلوة اسكندرية يا حبيبتي!
-يا بني بطل هزار بقا..
-طيب، طيب قوليلي بقى مالك!
-مالي!
-عينيكِ فضحاك.. متوّهيش!
-عادي بالي مشغول شوية..
-في إيه؟
-بفكر..
-بتفكري بجد! حسبتك بتعومي ولا حاجة..
-أنا عايمة فعلا في بحر أفكاري..
-بتعرفي تعومي يعني.. وبصوت خافت لنفسه سأل هازئا: واللي غرقان بقى يعمل إيه؟
-بتقول حاجة!
-لا، لا مفيش..

شاور للنادل ليأتي، وقبل مجيئه وجهت بصرها، فتجلى القمر، إلى مد البحر لتخفي وراء سؤالها لمعة حزن عينيها، فسألت:
-إيه هو الحب؟
-حب! دا احنا نجيب اتنين لمون بقا!
-أو تحديدا أسوأ ما في الحب؟
-أسوأ كمان!
-أؤمرني..
-الأمر لله.. اتنين قهوة سادة لو سمحت.. ءاا اقصد واحد مانجا وقهوة مظبوط.. شكرا.
ابتسما ثم عاد الصمت مرة أخرى، لتقطعه دندنة ساخرة:
-حب إيه اللي إنت جاي تقول عليه.. تيرارا.. إنت عارف قبلا معنى الحب إيه تيرارارا.. لما تتكلم عليه.. حب إيه إيييه..
-إيه يا لمبي مالك.. آااه، الله يرحمك يا ست.. الحمدلله ماتت قبل ما تسمع صوتك، بقولك ممكن طلب حفاظا على بقاء صداقتنا؟
-عارف، عارف.. خلاص مش هغني تاني..
-ها جاوبني!
-جاوبتك!.. مش مقتنعة صح! طب سبيني أكمل.. إنت ما بينك وبين الحب دنيا.. آاااه دنيا ما تطولها ولا حتى ف خيالك.
-أما نفس الحب عندي حاجة تانية.. حاجة أبدع من حياتي ومن أمالك.
-يا عيني، يا عيني.. إنت فين والحب فين ظالمه ليه دايما معاك.. إنت لو حبيت يومين كان هواك خلاك ملاك.. ليه بتتجنى كدا على الحب ليه..
-بعت ودّي تيرارا.. بعت حبي ليه.. بعت قلبي..
-يبقى فهمتي؟
-لا برضه!
-يا صبر أيوب.. الست هنا بتوصف الحب اللي من طرف واحد، واعتقد مفيش أسوأ من كدا..
علقت ساخرة:
-لأ في.. أسوأ ما في الحب هو الحب أصلًا.
-أصلًا! آاااه.. «ياللي ظلمتوا الحب وقلتوا وعدتوا عليه مش عارف ايه.. دا العيب فيكم يا في حبايبكم.. أما الحب يا روحي عليه.. يا روحي عليه».
-امممم، عارفة إن الحب احساس نقي وجميل، نعمة وهبة من عند ربنا، بعيدا عن تقاليد المجتمع وتعقيدات الحياة، بس لو جه في الوقت المناسب وراح للمكان الصح؛ هيكون نعيم لكن غير كدا جحيم.. عذاب.. المشكلة مش في الحب نفسه، لكن فالمشاعر اللي بنحسها منه..
-فليسوفة جدا، ماشاء الله..
-يابني بقا.. الله يهديك.. طيب لو عكست سؤالي بأجمل ما في الحب هتقولي إيه؟
-الأمل!
-بالظبط كدا.. شوفت وهي بتقوله أمل حياتي يا حب غالي مينتهيش.. وبعدين بخوف بتترجاه: «خليني جنبك خليني .. في حضن قلبك خليني..»، الخوف من إنك تصحى يوم وتلاقي كل اللي عيشته كان وهم.. خايف البُعد لتكون لوحدك.. وقتها هتكون تايه وروحك هتنسحب منك، العشم وسقف توقعاتك اللي فضلت تبني فيه أيام وشهور وسنين وقع مرة واحدة فطربق وانهد على دماغك، والأحلام اللي حلمتها أصبحت سراب وتلاشت زي الدخان..
سكتت، ثم أردفت بنغم وشجن تردد: «وسبني أحلم سبني.. ياريت زماني.. ياريت ميصحنيش..».
-…..

احتراما لِحُرمة حزنها العظيم، غلبه التأثر للصمت عن الكلام، فلم يعلق، وتركها تُكمِّل:
-ثم نفوق من الوهم على الفراق.. ويارتنا بنفارق، لأ هنقف في المنتصف المميت، لا هنعرف نقرب ولا نبعد، والقرب وقتها مبيريحش ولا حتى البعد.. لا هنقدر نعيش حياتنا زي الأول، ونتجاوز«نموڤ أون»، لأننا خايفين نظلم حد معانا، أو نفسنا.. نفسنا أهم نحافظ عليها.. نحبها ونخاف عليها لتنخذل تاني أو تنكسر…

كفت عن الكلام، لأ لنهايته، بل لكي تلحق أن تجف دموعها المحبوسة قبل أن تأخذ حريتها بالانهمار.. طفلة قوية وامرأة ضعيفة؛ فما أجملها! شد ما يألمه رؤيتها كذلك، فاعطاها منديلا عوضا عن العناق. فمسحت دموعها ونظرت له نظرة متسائلة عن صمته، فغرق أكثر يفتش بعقله عن كلمة؛ فتلك النظرة نسته جميع الكلام وطاحت به؛ بيد أنها نظرة حزينة تجعلها فاتنة؛ تشلّ العقل وتطيح به، وفجأة ومض سؤال بعقله وكاد أن يختفي، لكنه تلقفه مسرعا سائلا:
-تفتكري إيه أصعب شعور ما بعد الفراق؟
-الانتظار…
-والشوق والحنين.. الذكريات والتفاصيل!
-لا، الانتظار هو أصعبهم؛ لأنه بيديك أمل.. ودا أمل تاني.. أمل الانتظار.. الامل المستحيل..
-الأمل المستحيل!
-آاااه، الست لخصت المعنى دا في نهاية أغنية حب إيه، وهي بتعاتبه في ملل ويأس:
«ياما طول عمري رضيت منك آسية.. لما داب أملي وأنا بتمنى ودك..».. وبتكمل لوم محبطة من أملها فيه:
«كل شكوى كنت بتشوفها في عنيه وأنت في قربك ناسيني زي بعدك..»..
-فعلا، وهو ذات نفسه اللي بيخلينا نعيش ونستهلك كل طاقتنا في وضع ميئوس منه؛ منتظرين اهتمام.. كلمة حلوة وتقدير.. ونرضى بأقل شيء لمجرد الحفاظ على وجود شخص مش فارقينله.. بنحارب لوحدنا ف معركة الخاسر الوحيد فيها احنا.. نفسنا.. طاقتنا.. وكل حلو فينا..
-آاااه، تحس أنه بياكل الواحد كدا، على نار باردة بتستوي.. «اتقلب على جمر النار».. منتظرين دايما اعتذار لحالك وندم الشخص اللي سابك «واتشرد ويااه الأفكار».. منتظرين معجزة تحصل من عند ربنا.. منتظرين المستحيل..!
-وإن عاد معتذرا كما يقولون!
-الانتظار أشبه بالسرطان.. لما بينتشر؛ الحب بيُفْسد ويموت جوانا.. أيوا الحب موجود لكن مبقاش ينفع.. الروح انطفت والمشاعر اتحرقت.. «فانتظرتك حتى أفسد الانتظار حبي لك».
-فات الميعاد.. وعايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يازمان..
-وهاتلي قلب لا داب ولا حب ولا انجرح ولا شاف حرمان..
-لا دي صعبة الصراحة يعني..
ضحكا فغرقا بالصمت، هي في محيط ذكرياتها، وهو أمسك بدفتره وقلمه وشرع يكتب على صوت الموسيقى الهادئة. ومن بحر تفكيرها عادت تنظر له وهو منهمك، فسألت بصوت عالٍ:
-هي المانجا اتأخرت ليه؟
جاء النادل مع أثر صوتها؛ فتورد وجهها حرجا خجلا.. فانتهز الصديق الفرصة وضاع تركيزه عن حركته بوضع العصير والفنجال قبالتهما، غارقا يتأمل كِسوة الحياء التي اكتنفتها، التقت عيناهما؛ فخجلت أكثر والتفت مداريا خجله هو الآخر شاكرا إليه، ثم مصوبا عينيه هاربا تجاه الفنجال آخذا منه رشفة، وبمكر سألته:
-حلوة؟
-القهوة! آااه، جميلة جدًّا.
فضحكت خاجلة، وشدّ ما يحب ضحكتها الخجولة! لكنه هرب مسرعا عائدا منهمكا بدفتره يكتب، فتركته هو والفضول الذي انتابها عن ماذا يكتب، منشغلة بالشاليمو تحتسي المانجو.. لكنها عادت وسألت عندما استغرق قرابة خمس دقائق يكتب:
-بتكتب إيه؟
-….
-يا عم الكاتب إنت!
-إييه بتقولي حاجة؟!
-لا، لا كمل يا خويا.. كمل..
ألهمه الحديث أن يكتب أم ألهمته هي.. أم سجى الليل ونسيم البحر الهادئ. وما إن انتهى ترك القلم، واعطاها الدفتر لتقرأ، وقد كتب أعلاه:

أسوأ ما في الحب!

«أسوأ ما في الحب أنه لا يأتي أبدا في الوقت المناسب، وأنه لا ينتهي، سرمديٌّ لا أول له ولا آخر.»
ستصبح روحك معلقةً بالخواء، لا تعلو بالسماء أو تستقر. سيطاردك أينما تذهب، وإن تلاحقه يولِّ منك هاربا. وإن تخْمد ناره تزيدك اتقادا ولوعا، ستبتلعك نيران الشوق والحنين. وحين تحترق على نار باردة -ولات حين مناص- على ذؤابة لهيب انتظارك الراقص؛ ستساءل: أين عقلك الأسير؟
فيرد ذليلا: إني مكبّلٌ بأصفاد الذكريات وأغلال التفاصيل..
وستساءل قلبك الجريح؟
فيرد نادما: أنا هويتُ وانتهيت.. وليه بقا لوم العزول.. وليه يحب أقول ياريت.. ياريت ياريت.. يارتني عمري ما حبيييت..

يُتبع…

قد يعجبك ايضا
تعليقات