سهام سمير
إن كان في حياة كل منا معتقد ومقولة يؤمن بها، فأنا أعتقد في استمرارية الحياة حتى إن توقفت لحظات في عمر كل منا.
عندما تُوفي أبي تخيلت أن الحياة ستصبح سرادق عزاء كبير، لكن لدهشتي استمرت الشمس في الشروق والغروب، وزقزقت العصافير كدأبها كل يوم، ومر بائع البرتقال تحت الشرفة كما اعتاد ولم ينقص من الحياة سوى نفس أبي.
تعلمتُ بعدها ألم الفراق، من ثم تعلمتُ أيضا أدابه.
للفراق أدب، اتيكيت محفوظ، منه أننا نمتص الصدمة ننكر بعض الوقت ونُسلم بمجريات الأمور بعد ذلك. حينها أيقنتُ لمَ تستمر الحياة فيما تتوقف حياة أقرب الناس إلينا.
تستمر لأنه جزء من العلاج أن نخطو بعيدًا عن الألم بلا نسيان ولا سهو ولكن بحكمة وتروي.
هذا ما يميز البشر عن سائر المخلوقات.
البشر يتقبلون الفراق، الفقد وتوابعه، يتفهمون طبيعة الحياة، يتنقلون فيما بين الطفولة والشباب والشيخوخة بسلاسة وبملء إرادتهم يختارون مكانهم الأخير مع تمنياتهم لبعضهم بطول العمر .
أما إن تأملنا حيوات غيرنا من المخلوقات لتملكتنا الدهشة من طبيعة بعضها.
النسور على سبيل المثال، حين تود التكاثر تُبهر الأنثى بأن يمشط بعضها ريش بعض ويستعرض الذكر مهاراته في الطيران على ارتفاعات لا يصلها سوى هذا الفصيل من الطيور.
حياته في المرتفعات علمته ألا ينحني ولا يقبل بالدنو من مستويات الأرض المنخفضة.
تلك الحياة التي وهبته المجد والكبرياء، تجعله في لحظات ضعفه حين يبلغ الكبر؛ يتخذ أحد طريقين، إما السقوط الحر من مرتفعاته وهو خافض لجناحيه بمنتهى الاستسلام فيما يشبه الانتحار عندنا أو الطريق الآخر، وهو نتف ريشه وكسر منقاره على ما يلاقيه من عناء وقسوة في فعل ذلك، حتى يتسنى له تجديد حياته، فيما يُعرف بميلاد جديد بريش ومنقار جديدين.
أما الصقور فما يدفعها لاتخاذ مثل هذا القرار، ليس وجودها في الأعالي مع عدم قدرتها على التحليق، إنما وقوعها في الأسر، حتى لو كان القفص ذهبيا.
هذه الطيور اعتادت الحرية، والحياة الكريمة، ما يجعل فرخ النسر يطير بعيدا عن أبويه بعد خمس وخمسون يومًا فقط من وجوده بينهما.
عملا بقول الشاعر الفلسطيني الشهيد عبدالرحيم محمود: فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى.
أكتب كلماتي هذه وأنا أراقب نملة 🐜 فارسية تسير بدأب وسط حشائش الحديقة وأتعجب من حرصها على هذه الحياة بين الحشائش دون أن ترفع رأسها مرة لترى ما يحدث حولها!
أعود لبيتي وأفرغ حقائبي فأجد بينها النملة تعبث في بقايا طعامي فأضطر للتخلص منها في صندوق القمامة.
أعود للتحليق في المرتفعات بين قمم الجبال أجدني منجذبة لذاك النسر الذي اتخذ بكامل إرادته التخلص من حياة لا تتيح له الطيران ويرى من على بعد المنظر من أعلى بكل جمال الطبيعة واحتوائها لنا بكل اختلافاتنا.
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية