القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

العادة والعبادة ” الجزء الرابع “

121

 

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الرابع مع العادة والعبادة، وقد توقفنا عند ما جهل حاله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الأصح أنه يراعى فيه عادة بلد البيع، وفي إرسال المواشي نهارا وحفظها ليلا، ولو اطردت عادة بلد بعكس ذلك، اعتبرت العادة في الأصح، وفي صوم يوم الشك لمن له عادة، وفي قبول القاضي الهدية ممن له عادة، وفي القبض، والإقباض، ودخول الحمام، ودور القضاة، والولاة، والأكل من الطعام المقدم ضيافة بلا لفظ، وفي المسابقة، والمناضلة إذا كانت للرماة عادة في مسافة تنزل المطلق عليها، وفيما إذا اطردت عادة المتبارزين بالأمان ولم يجر بينهما شرط فالأصح أنها تنزل منزلة الشرط، وفي ألفاظ الواقف والموصي، وفي الأيمان، والعادة إنما تجعل حَكما لإثبات الحكم الشرعي إذا لم يرد نص في ذلك الحكم المراد إثباته، فإذا ورد النص عمل بموجبه ولا يجوز ترك النص والعمل بالعادة لأنه ليس للعباد حق تغيير النصوص، والنص أقوى من العرف لأن العرف قد يكون مستندا على باطل، أما نص الشارع.

 

فلا يكون مبنيا على باطل، فلذلك لا يترك العمل بالقوي لأجل العمل بالضعيف، على أن الإمام أبا يوسف يقول إذا تعارض النص والعرف ينظر فيما إذا كان النص مبنيا على العرف والعادة أم لا؟ فإذا كان النص مبنيا على العرف والعادة ترجح العادة ويترك النص واذا كان النص غير مستند إلى عرف وعادة يعمل بالنص ولا عبرة بالعادة، ومع ذلك يجب أن لا يفهم أن حضرة الإمام أبي يوسف يذهب في رأيه إلى ترك النص والعمل بالعرف والعادة، وإنما رأيه بمثابة تأويل للنص، وعلى هذا فمن المتصور أن يكون الفعل الواجب من العبادات، كما يتصور أن يكون من العادات، كما في إيجاب المعاشرة بالمعروف، فالواجب هنا لا يدخل في باب العبادات وإنما في باب المعاملات والعادات إذ العبادة تتوقف على النية، بينما المعاشرة بالمعروف لا يتوقف حصولها على النية، فليس كل واجب عبادة، وليس كل طاعة عبادة تفتقر إلى استحضار النية، والفقهاء قسموا كتب الفقه وأبوابه إلى عبادات ومعاملات.

 

وغير ذلك رغم أن كل هذه الأقسام لا تخلو من واجبات ومحرمات، فهذا يشير إلى أن هناك مفهوما خاصا للعبادة والتعبد بأعمال وشعائر مخصوصة، وهذا لا يمنع من وصف التاجر الأمين مثلا بأنه يطيع لله بأعمال التجارة، ولكنها طاعة بالمعنى الأعم، بخلاف المعتكف والمصلي والصائم فإنها عبادات وطاعات بالمعنى الأخص، والمراد بالعبادات هو ما كان المقصود منها في الأصل تقرب العبد إلى الملك المعبود، ونيل الثواب والجود، كالأركان الأربعة ونحوها وبالمعاملات ما كان المقصود منها في الأصل قضاء مصالح العباد كالبيع والكفالة والحوالة ونحوها، وكون البيع أو الشراء قد يكون واجبا لعارض لا يخرجه عن كونه من المعاملات، كما لا تخرج الصلاة مع الرياء عن كون أصل الصلاة عبادة، وإن الإنسان لا يحيا بدون الأكل على ما عليه جبلته، فلا بد من أن يعيّن بعض الزمان للصوم وبعضه للفطر، فتعينت النهار للصوم لأن الابتلاء يتحقق فيها لأن في النفس داعية إلى الأكل والشرب وذلك فى النهار في العادة.

 

فيتحقق خلاف هوى النفس بالإمساك عن الشهوات فيه، فأما الإمساك في الليل فعلى وفاق هواها، فلا يتحقق فيه معنى الابتلاء على الكمال إذ أصل بناء العبادة على مخالفة العادة لا على موافقتها، وكره صوم الدهر لأنه يضعفه أو يصير طبعا له ومبنى العبادة على مخالفة العادة، وإن نهي المرأة عن التنقب والقفازين يدل على أن حكم إحرام المرأة يتعلق بوجهها وكفيها والسر في ذلك، وفي تحريم المخيط وغيره مما ذكر والله أعلم مخالفة العادة، والخروج من المألوف لإشعار النفس بأمرين أحدهما الخروج عن الدنيا، والتذكر للبس الأكفان عند نزع المخيط والثاني تنبيه النفس على التلبس بهذه العبادة العظيمة بالخروج عن معتادها وذلك موجب للإقبال عليها، والمحافظة على قوانينها وأركانها، وشروطها وآدابها، ويتبين مما سبق أن أهم ما يميز العبادة عن العادة لزوم استحضار نية التقرب إلى الله تعالى في كل عبادة امتثالا لأمره مع إظهار التذلل والخضوع له بصورة خاصة غير معتادة في الحياة الاجتماعية للناس.

 

لأن مبنى العبادة على مخالفة العادة والخروج من الشعور المألوف، ولا يلزم شيء من ذلك في العادات، وإن كانت محاسنها توصف بأنها طاعات يثاب عليها، بل ويجب أحيانا الرجوع إليها فيما لا نص فيه باعتبارها دليلا من أدلة الأحكام الشرعية التي أحال عليها الشرع الشريف، ولهذا كان بعض الواجبات مبتناه على العرف والعادة، ولم يلزم من وصفها بالوجوب أنها من العبادات، ومن المعلوم أن من أعظم أسباب استقامة العبد في سيره إلى الله أن يكون له طاعات يلازمها، ويحافظ عليها، ويعتادها، لا يفرط فيها ولا يتهاون، ولا يتكاسل عنها، وهكذا كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم “ديمة” أى دائما، ثابتا، مستمرا، وكان أهله إذا عملوا عملا أثبتوه، أما العادة بمعنى أن لا يشعر الإنسان بالعبادة ، فيفعلها بصورة آلية لا روح فيها، فإنه خطر ينبغي على الإنسان أن ينتبه إليه، فإن الأجر مرتب في العبادة على حضور القلب فيها، كما قال سبحانه وتعالى ” قد أفلح المؤمنون، الذين هم فى صلاتهم خاشعون”

قد يعجبك ايضا
تعليقات