القاهرية
العالم بين يديك

رمضانُ أهلاً

155

بقلم/مودَّة ناصر

الليلُ يرسل شذى نسماتهِ رقيقةً، وتتمايلُ أوراقُ الأشجار على بعضها في إيقاعٍ روحانيِّ بديع، النجومُ مُرصعةٌ في سماء الليلِ تتهامسُ بتسابيح تُنير الكون كأنها تسر بسر لبعضهن عن أسماء عباد الله الصالحين، فتسطّر ميلاد صُبحٍ جديد (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

حينما يُرسل الكونُ رحماتهِ رحبةً، وتُهدي السماءُ أهل الأرض سكينة سلامٍ تُسكن القلوب.
حينما تسطعُ الآمالُ باسمة في أن “يُبدَّل القلبُ غير القلبِ، وتهنأ الروحُ من شقاءٍ، وتخِفُّ النفسُ إثر ثُقلٍ، وتُمحى الخطايا وتُكتبُ الحسنات” هنا نعرف أن الله منَّ علينا برمضان.

في مشهدٍ يضمّه ابتهالٌ نقشبنديٌّ عذبٌ يقول:
(رمضان أهلًا مرحباً،
رمضان الذكرُ فيك يطيبُ والقرآن،
بالنورِ جئت وبالسرور،
ولم يزل لك في نفوس الصالحين مكان)،
تنظرُ إلى أعلى والشرُفاتُ مزدانة بفوانيس تسرُّ الناظرين، في محاولةٍ لطيفةٍ تُرحِّب بالهلال، والهلالُ عروسٌ فاتنٌ، يتدللُ على أحبتهِ في ألقٍ يُذيب القلوب، والأطفالُ ملتفين في دائرةٍ تُشبهُ الوردة، أوراقها ملونةٌ بفوانيس جميلة، وفرحٌ طفوليٌّ طاهر يعمُّ المكان قائلاً: “حالو يا حالو، رمضان كريم يا حالو”.

تُعطِّر الفتاةُ سجادة الصلاة وجلبابها الجديد، استعدادًا لاستقبالِ ضيفٍ جميلٍ، وقد رتَّبت دعاءها، وآمالها، وثناءها لله المُجيب، ويرتدي الفتى ثوبه الأبيضُ آمالًا أن ينقيه الله من خطاياهُ كما يُنقَّي الثوبُ الأبيضُ من الدنس، حاملاً سجادته في يدِه، مُسرعًا إلى بيتُ الله حتى يلحق بصفوفهِ الأولى.
والأُمهاتُ -كعادتهنَّ- يُمارسن الحُبَّ -أي الطهي- باذلاتٍ كُل الجهد حُبًا لإعداد فطورٍ تجتمعُ حوله العائلة، ويتناثرُ حوله الحديثُ الظريف، وصوتُ بكَّار في الخلفية يقول: (أبو كفّ رقيق وصغير وعيون فنان محتار،
يا أبو ضحكة وصتها في قلبه بيضوّي ألف نهار،
بكّار، بكّار، بكار)؛
هنا يشعرُ الأولاد أنهم مازالوا صِغارًا وأن رمضان لا يشيبُ في قلوبهم أبدًا.
والآباءُ عائدين بعد يومٍ طويلٍ، لا تخلو أيديهم من خيرٍ كثير وعطاءٍ لا ينفذ أبدًا، يُسبحون الله ويتلون القرآن في انتظار مغربٍ يروي عطش اليوم وتعبه.

الجميعُ واحدٌ والواحدُ هو الجميع، الأيادي كلها ترتفعُ في رجاء، والسجودُ يضمُّ الدعاء والبكاء، النفوسُ واهنةٌ تجاهد، والله الكبيرُ تشملُ رحمته العباد.
المصاحفُ رفيقةُ الأيام، والآياتُ تنزل على القلوب فتهبها خشية وسلام، والله جميلٌ قريب.
أيامًا معدودات، ونحنُ بين إحسانٍ وإخفاق، تارة مُتقدمين وتارةً متخلفين.

نسألُ الله السداد إلى أن يرتفع الصوتُ النقشبنديُّ تارك أخرى قائلًا:
“رمضانُ مهلاً، ترفّق يا رمضان فما زالت القلوب قاسيةً، و الأرواح عطشى، بالأمس كنا نقول: رَمضان أهلًا، و الآن نقول رمضانُ مهلًا، ما أسرعَ خُطاك تأتي على شوقٍ و تَمضي على عجلٍ؛”
نُلملمُ الدعاء ونستودعُ الحاجات، ونصبرُ أن نلتقي الإجابات، وينادي صوتٌ يدندنُ:
“يا بركة رمضان خليكِ، خليكِ في الدار.”

قد يعجبك ايضا
تعليقات