القاهرية
العالم بين يديك

أحبها وتغيب

149

بقلم/أحمد النحاس

 

أركض وراء أشياء لا أستطيع أن أراها أو أن أعرف اسمها، أخبرني صديق ذات نهار أن الأشياء التي نركض خلفها ولا نراها غالبًا ما تتحول في لحظة إلى فخاخ وقد تبهرنا فنحتضنها كمفاجأة، لكنني كنت مؤمنًا وما زلت بأن الأشياء الخفية هي أجمل ما قد يحدث لنا على الإطلاق في الحياة العابرة، الحياة نفسها غامضة، الغد غامض، الأشخاص العابرون، خطواتهم، الشوارع، الأرصفة، الموانئ، الحدود، قلبها والشعور.
هذا الأخير الذي لا يتوقف عن تحريك العالم ليل نهار، يتمدد داخل الجسد بأريحية وضجيج وقلبها النائم كحمامة وديعة لا يكف أبدًا عن مطاردتي بصفائه اللامحدود، تختبئ خلف ستائر القلق الرمادية، لكنها سرعان ما تنسل إلى الفضاء الأبيض الكبير فتنتشر كخرز لامع وتشع الألوان وتظهر في حلتها كقمر لبس غلالة رقيقة تنتثر عليها النجوم، أراها، ألوح لها فيتساقط جلد القلق وتأت بيد متخشبة وتتحدث بحروف باردة، لكنه سرعان ما تتدافع الأشياء، الأصابع، الأحلام، الكلمات، النجوم، كل شيء يسرع نحونا، تتساقط الأسئلة من الإطارات ويتبدد الخوف من الفقد وانتهاء المواعيد.
أقول: افتقدتكِ.
تقول: افتقدتكَ.
أكره المقدمات المثلجة، أكره أن يدور كل منا حول الآخر حتى تندلع شرارة الحوار، أكره نفسي التي تسمح لها بالابتعاد كل مرةٍ وأكره الغياب، أكره أنفاسنا التي تتسارع قرب بوابات اللقاء وأشعر بالأسف على أوقاتنا التي تضيع، ماذا لو ظلت حاضرة لتجمع بيننا خصوصية متفردة ولو لليلة واحدة، كيف لي أن أرصد ملامحها التي أكلها الغياب وبال بعدها على ذاكرتي، أعلم أنها ستأتي وتنادي ناطقة اسمي بأصابعها الناعمة وترد عليها أصابعي الخشنة نعم يا قمري لكنني أخاف من الفقد المتكرر، أخاف أن أقول: أحبكِ فتقول: أحبكَ وتغيب بعدها فتتراءى لي كل الصور القديمة، صورة أبي، جدتي، أصدقائي الذين أضاءوا ظلمة الثرى مبكرًا، طفولتي البائسة وأبكِ، أخاف أن أبكِ فيتبلل قمح روحي وينبت دونها فيأكله المارة من العصافير والغربان وفزاعات الحقول، اعتدت أن أحبها وتغيب، أحبها وتغيب، أحبها وتغيب، الآن أقف على عتبة باب الغياب وأنادي بصبر الصائمين جميعهم وألعن عيون الظلام التي تنظر لي من الثقوب.

قد يعجبك ايضا
تعليقات