القاهرية
العالم بين يديك

حبيبتي العزيزة

128

بقلم محمود أمين

أكتب إليك وأنا كلي خجل، لأني مهما كتبت لن تفي الكلمات بعض حقك، ولن تلبي حاجة في قلبي ولا تقر عيني بعد الانتهاء منها، أكتب إليك لبعد الوطن وقلة الحيلة وضيق ذات اليد، ولقد تمثل غيابك عني وغياب الوطن كما يجتمع للسجين قاصمتان: مرارة الحبس ومرارة المرض.
أمي العزيزة عيدك عندي كل يوم بل كل لحظة وثانية، لم أكن أعلم أن لك بقية تسكن في نفسي، فالحنين إليك دائم لا يهدأ ولا يلين، وكلما ذكرتك أو مر خيالك بخاطري لا أستطيع التحكم في نبضات قلبي، أذكر يوم سافرت عنك وتغربت للمرة الأولى؛ دمعك الغالي فقلت لك وقتها: يا أمي لا تبك فيؤلمني ذلك.
الكلمات في حضرتك خاوية تستحي من قصورها وقلة حيلتها، هو القلب يستطيع التعبير عما في نفسي لكن ليس بالكلمات وإنما بالمشاعر والنبضات، ولو تستطيع هذه الرسالة حمل نبضة واحدة من نبضاته لأرسلتها طي هذه الورقة.
المشاعر تلتهب والحكايات في ذاكرتي تتسارع في الخروج لأسطرها لك؛ ولكن هذه الرسالة ستنشر فيما بعد فاجعلي حكاية الذكريات بيني وبينك، وأنتهز الفرصة في تفريغ ما بالقلب تجاه كل أم وواجب كل ولد.
خلق الله الأم وكون فيها القرار المكين: حبا وكرامة، فلو تصورنا الحياة تصورا صغيرا لَجُمع في امرأة، هي الحياة والأمان والاحتضان، ترعى وليدها حتى يدرج وتذب عنه كل يد يريد العبث به، كأن الله خلق قلب الأم من الجنة، فهي تلبي وتعرف حاجة ابنها دون أن يلفظ: وكم مرة نسمع أمهاتنا يقولن: إنك يا ولدي في عيونك كلام، أو إنك ستفعل كذا وهذا ظني بك، كم من المواقف التي نعرفها ومررنا بها على هذا النحو الجلي الذي لا يخفى عن العيون ولا القلوب.
عندما يغترب امرئ عن بلده تمر عليه الأيام وتتزاحم المشاعر كما تتزاحم السيارات على كبري قصر النيل، فيتفاجأ بشعور نافذ لا يستطيع السيطرة عليه هو الحنين إلى بلده، يجد نفسه تفتقد هواءها وترابها والحصى الذي كاد يوما يكبّه على وجه وهو يمشي في الشارع، وبعد حين يَدِّقُ هذا الشعور عن الفهم ويعلو عن المعرفة، حتى تظن نفسك كالقشة لو مسها إنسي لقصمت: هو شعور الحنين إلى الأم، شعور يلفك كما يلف العطر عود الريحان، نبض القلب وقتها لا ينفك عن الدق كأنه يبث بكل دقة آلام المحبة مجتمعة تجاه الأم، ومن سريان الدم في العروق شهادة على رباط الدم بين الأم وولدها، فلو تسمَّعت جريان الدم في العروق لوجدت الدم يحمل للأم رسائل الحنين للعودة لأحضان الأم، ولو قالت لك أمك ذات يوم: أنت مني فقل لها: صدقت يا أمي.
هذه كلمات تدور مدارها كل يوم في مجال روح الأبناء حتى يقابلوا أمهاتهم فينكبوا في أحضانها كانجذاب المغناطيس أو كعودة الجزء إلى الكل، ففعليك سلام الله يا أمي ويا كل أم غاب عنها ولدها، وأحاطت بك ملائكة الرحمة تهون عليك قساوة الأيام، والله أسأل أن يجمعني بك على خير.
عظيمة أنت لا تحيطك الكلمات فمثلي كمثل طفل عرف الألفاظ وجهل المعنى فهو دائم التردد بها (ماما مممم مما ماما) وما أجمل وقعها على قلبك الشريف ولهذه الكلمات أعظم قدرا عندك من كتاب كامل، فما هي إلا دليل على عظم قدرك بين الموجودات؛ إذ جاءت تلك التمتمة من ولدك.
م.أ
#رسالة

قد يعجبك ايضا
تعليقات