القاهرية
العالم بين يديك

بالأبيض والأسود

146

كتب/ أحمد النحاس

لم تكن امرأة عادية، كانت حديدية، في وجهها تتلخص أنهار العالم وتلتقي سبل التائهين، كانت قادرة على التخطي رغم أوجاعها، رغم حنينها لدفء شريكها الفقيد الذي تركها رغمًا عنه راحلًا في البياض، تركها وحيدة إلا من ثلاثتنا، طفل في الثامنة وفتاتان، تركها في عمر الزهور عارية بلا ريش تنخرها الوحدة والغربة المميتة، تثقب في شبابها عيون الطامعين ويأسرها أزيز ليل لا ينتهي، وقفت بمفردها كحارس الحقل، حاولت مرارًا ألا تكون عاجزة عن التكيف مع الواقع الجديد والتأقلم مع مغزى وجودها ودلالة كينونتها في هذا العالم الذي لا يعرف سوى الرعب والخوف والموت، سارت وحيدة بالقدر الذي جعلها تذبل في السواد الذي ترتديه، لم أتذكر يومًا أنها خذلتني، كانت حاضرة حتى في غيابها، علمتني أن حياتنا ما هي إلا امتدادًا لحيوات من سبقونا وأنه على الإنسان أن يصنع سيرته التي يرضى أن يُذكر بها بعد رحيله، علمتني أنه دائمًا في القليل بركة وأن سماحة النفس تجلب الرزق، ظللتنا كسحابة بيضاء باسقة، لم تبخل ولم ترحل ظلت شامخة في مينائها بلا وسائل للنجاة، يتخبطها الزمن بذاكرته المخرومة وبحكاياته التي لا بداية لها ولا نهاية، كثيرًا وحينما ينطفئ النور كنت أسمع أنينها المتقطع، لم أفهم وقتها أنها تعاني من الانكسار والتشظي، لم أفهم وقتها أن الأمهات في الظل يكن أكثر ضعفًا وأكثر خوفًا وأكثر حاجة، كنت أسمع دعواتها ومناجاتها وبكائها وأتساءل لماذا تفعل هكذا، بعد صبر قصير عرفت أن قلوب الأمهات مدنٌ لا تنام وأن حقيقة العتمة الغارقة في البياض تعادل تمامًا البياض الغارق في العتمة، البياض كله ابتسامة أمي والعتمة حزنها.

قد يعجبك ايضا
تعليقات