القاهرية
العالم بين يديك

أديب ومعلومة الجزء الأول

164

كَتَب د_ عِيدٌ عَلَى

أرهقني مُدَّعِي الْكِتَابَة الأدَبِيَّة مِنْ رَكَاكَةِ أسلوبهم وتجنيهم عَلَى فُنُونٍ الأدَبِ ، فَهُمْ لَمْ يقرضوا الشَّعْر يَوْمًا وَلَمْ يدرسوا بُحُوره مَع تجردهم مِن الْمَوْهِبَة فَأَصْبَح الشَّعْر وَالْأَدَب فِي عَصْرِنَا الْحَاضِر يَتَنَاوَلُهُ مِنْ لَا يَفْقَهُ أَلْوَانه وَلا مدَارسَه ، وَلاَ يَلْتَزِمُونَ بِوَزْن أَوْ قَافِيَةٌ بَلْ وَلَا التَّفْعِيلَة الشِّعْرِيَّة ،
وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْقَصَّةِ الْقَصِيرَة وَالرِّوَايَة وَقَلِيلٌ جِدًّا مِنْ كُتُب فِي الْمَسْرَحِيَّة وَالرِّسَالَة وَاتَّجَه بَعْضُهُمْ إلَى كِتَابَةِ الْمَقَال الأَدَبِيّ وَلَم يدرسوا فُنُونه وَلَا أَنْوَاعَهُ وَأَطْلَق كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَقَب شَاعِرٍ أَوْ أَدِيب لِذَلِك أَرَدْنَا مِنْ خِلَالِ الأجْزَاء التَّالِيَة تَسْلِيط الضَّوْءُ عَلَى بَعْضٍ خَصَائِص الْأَدَب وَرُؤْيَة لِبَعْض وَجِهَات نَظَرٌ الْأُدَبَاء لَعَلَّنَا نتذوق جَمَاله ومحسناته الْبَدِيعِيَّة وَأَلْوَانه الْبَيَانِيَّة

وَالْآن مَع الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ سِلْسِلَة أَدِيبٌ وَمَعْلُومَة
وَخَيْرَ مَا نَبْدَأُ بِهِ مَا ذَكَرَهُ يَحْي حَقِّي نَمُوذَج مِنْ الْقِصَصِ الَّتِى مَلِلْنَا مِنْهَا مِنْ مُدَّعِي الْكِتَابَة
ثُمّ نَتَنَاوَل فِي الْإِجْزَاءِ التَّالِيَة الْأَدَب بفنونه وَخَصَائِصه وأسلوب الْبَعْضِ مِنْ الْأُدَبَاء

نَقْلًا عَنْ يَحْي حَقِّي
أُسْلُوب و أُسْلُوب

” مِنْ أَجْلِ التَّقْرِيب بِالتَّشْبِيه لَا مِنْ أَجْلِ التندر ، إلَيْك نموذجًا مِن اخْتِرَاعِيّ طبعًا لمطلع قَصَص عَدِيدَة يَقْرَؤُهَا عليَّ أَصْدِقَائِي مِنْ الشَّبَابِ . . . . .
(كان مُحَمَّدٌ أَفَنْدِي يدلف فِي الحَارَةِ وَهُوَ حَامِلٌ بِطِّيخَة فِي حِضْنِهِ ، وَكَان جَوْرَبَةٌ متدليًا فَوْق حِذَائِه ، وَلَوْ كَانَ تدلَّى أَكْثَر لظهرت خُرُوقِه الْمَسْتُورَة ، وَكَانَ قَدْ اسْتَلَمَ مَرْتَبَةٌ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ الدِّيوَانِ ، وَكَان غاضبًا ؛ لِأَنّ الْمُدِير كَانَ قَدْ أَنْذَرَه بِخَصْم يَوْمَيْن ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَأَخَّرَ يَوْم الخِنَاقَة مَعَ زَوْجَتِهِ وَكَان . . . . . . إلَخ .

تَكْرَار الْفِعْلُ كَانَ :
تَتَكَرَّر (كان) و(كانوا) فَمَا بَالُك إذَا جَاءَتْ نُون النِّسْوَة أَكْثَرَ مِنْ ١٥ مَرَّةً فِي ٤ أَسْطُر . يَنْقَلِب الْقَارِئ إلَى دَجَاجَة لَهَا كأكأة لَا تَنْقَطِعُ مِنْ حنجلة حَوْل الطَّبَق الْفَارِغ ؛ انتظارًا لِمَوْعِد الْأَكْل ، فَكَأَنَّهَا مَرْبُوطَة إلَيْه بِحَبْل يُقَيِّد قُدْرَتِهَا عَلَى الْحَرَكَةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةٌ تَعْقِيد لَفْظِيٌّ ، فَلَوْ كَانَتْ لهانت .

بُعْبُع التَّعْقِيد اللفظى :
لَقَد خوَّفونا فِي الْمَدَارِسِ ـ إلَى دَرَجَةِ الرُّعْب ـ مِن بُعْبُع التَّعْقِيد اللَّفْظِيّ مِنْ قَوْلِهِ (مستشزرات إلَى العلا) فِي بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَهُوَ يَصِف جَدَائِل فَرَسِه عَلَى رَقَبَتِهِ ، وَقَوْلُه (وليس قَرُب قَبْر حَرْب قبر) ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِنَايَةَ كُلَّهَا كَانَتْ مُنصبَّة عَلَى الْأَلْفَاظِ لَا الْمُعَانِي ، وَقَالُوا لَنَا : أَنَّ الْمَعَانِيَ مُلْقَاةً فِي الطَّرِيقِ ، أَمَّا الْأَلْفَاظ فَإِنَّهَا تَدُور دَاخِلٌ أَصْدَاف لاَبُدَّ مِنْ التقاطها وَلَو تَنْقَطِع الْأَنْفَاس . ــ هَذَا مَعَ أَنّي أَسِيرٌ فِي الطُّرُقَاتِ مُنْذُ أَيَّامِ الْمَدَارِس فَلَم أَعْثَر حَتَّى الْآنَ عَلَى أَيِّ مَعْنَى مُلْقًى فِي الطَّرِيقِ ، بَلْ إنْ الْأَلْفَاظَ هِي ـ عَلَى الْعَكْسِ ـ كَثِيرَةٌ ! ! وَكَمْ مِنْ كَاتِبٍ اسْتَبْدَل بِكَلِمَة مُحَدَّدَة لَازِمَةٌ كَلِمَة عَائِمَة مُقْلِقَةٌ تَافِهَة ! لَا لشئ إِلا مَخَافَةَ الْوُقُوعِ فِي هَذَا التَّعْقِيد اللَّفْظِيّ .
فِى الْكِبْر قلَّ خَوْفِنَا مِنْ بُعْبُع التَّعْقِيد اللفظى
وَلَمَّا كَبِرْنَا قلَّ خَوْفنَا مِنْ بُعْبُع التَّعْقِيد اللَّفْظِيّ ؛ لِأَنّ الِاهْتِمَام بِالْمَعَانِي غَلَب الِاهْتِمَام بِالْأَلْفَاظ ، وَاعْتَرَف لَك أنَّنِي لَا أَجِدُ الْآنَ عَيْبٌ فِي (ليس قَرُب قَبْر حَرْب قرب) ، بَل أَكَاد أحسُّ فِي تَدَافُعٍ قافاته وباءاته وراءته دقات طَبْلَة الْغَضَب وَالْحُزْن فِي مَأْتَم الْقَبِيلَة طَالَبَه الثَّأْر .
رَأَى الْكَاتِب فِى تَكْرَار كَان :
إذْن فَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي النموذج الَّذِي أَوْرَدْته لَك عَنْ مَطْلَع الْقَصَص مَسْأَلَةٌ تَعْقِيد لَفْظِيٌّ ، فَلَوْ كَانَتْ لهانت ، بَلْ رُبَّمَا جَاء تَكْرَار (كان) أَكْثَرَ مِنْ ١٥ مَرَّةً فِي ٤ أَسْطُر مِثَالًا لملاءمة اللَّفْظَ إذَا أُريد بِهِ أنْ يُوحِي بِمَعْنَى لَا يُؤَدِّيَهُ سِوَاه ، وَلَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ هِيَ مَسْأَلَةُ أُسْلُوب السَّرْد الَّذِي تُكتب بِه الْقِصَّة .

الْمَطْلُوبُ مِنْ كَاتِبٍ الْقِصَّة :

الْمَطْلُوبُ مِنْ كَاتِبٍ الْقِصَّة أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ صَاحِب السَّفِيرَة عَزِيزَةٌ ، فليستخدم الْفِعْلِ فِي صِيغَةِ الْمَاضِي فِي بَدْءِ الْكَلَامَ عَنْ الْحَدَثِ بِلَا حَاجَةٍ إلَى (كان) أَو( كانوا) . فبدلاً مِن (كان مُحَمَّدٌ أَفَنْدِي يسير) يَقُول : (سار مُحَمَّد أفندي) . . إلَخ .
إن جرَّ الْمَاضِي إلَى الْحَاضِرِ يُبقي لِلْحَدَث حَرَارَته وتلقائيته وَحَرَكَته ، وَالْقِصَّة مُحْتَاجَةٌ لِأَنّ تَشَيَّع فِيهَا الْحَرَكَة ، بَلْ يَقُولُونَ : إن بَدَأَهَا بِفِعْل يَدُلُّ عَلَى الْحَرَكَةِ يَخْدُمُهَا . الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ ـ بِحَسَبِ هَذَا الْمَنْطِق ـ خَيْرٌ مِنْ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ .
أُسْلُوب الْمَوَال والمنولوج :
وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْكِتَابِ تَقْلِيد أُسْلُوب الْمَوَال فِي الْقِصَّةِ ، وقدَّموا الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ ، وَلَكِن نَتَائِج هَذَا الْأُسْلُوبَ لَم تَتَبَيَّن بَعْدُ وَلَمْ تَسْتَقِرَّ .
وأسلوب (كنت عِنْدَهُم وجئت) الَّذِي يَلِد (كان) بِدُون تَحْديدُ النّسْلِ هُوَ الَّذِي أَتَاح للنموذج الَّذِي أَوْرَدْته لَك عَلَى كَبْكَبَة التَّتَابُع الزمني ، بَل قَلْبِه رأسًا عَلَى عَقِبٍ بِلاَ مُبَرِّرٍ فَنِي ، وَأَوَّل الْحَوَادِث جَاءَ فِي الْآخَرِ ، وَآخَر الْحَوَادِث جَاءَ فِي الْأَوَّلِ ، كَانَ الْكَاتِبُ يُسَارِع بِذِكْر شَيّ كَانَ قَدْ سَهَا عَنْهُ ، خَيْرٌ وَسِيلَةٌ لِلرُّجُوعِ إلَى الْوَرَاءِ هِيَ وَسِيلَةٌ المنولوج الدَّاخِلِيّ (الحوار مَع النفس) . أَنَّنَا حِينَئِذ نِصْف تَتَابُع ذِكْرَيَات حَوَادِث بالمقلوب

وَالْآن هَل وَعَيْنا الْمَغْزَى مِن سَرْد مَا ذَكَرَهُ يَحْي حَقِّي مَتَى نفطن إلَى الِاعْتِمَادُ عَلَى الْمَعْنَى بَدَلًا مِنْ اللَّفْظِ هَلْ يَهْتَمّ الْآن الْأُدَبَاء بالتشويق والإمتاع وَالِاسْتِمَالَة وَالْإِقْنَاع أَم أَنَّنَا نَهْتَم بِاللَّفْظ لِيُقَال لَنَا أَنَّهُ مُثَقَّف قَارِئ مُبْدِع عفوا يَا سَيِّدِي الْأَدِيب نُرِيدُ أَنْ نَقْرَأَ لَك ونتذوق الْمُحَسِّنَات وَالأَلْوَان الْبَيَانِيَّة ونفهم بِدُون الرُّجُوعُ إلَى الْمُعْجَمِ لِتَفْسِيرِ مَا تُلْقِيه عَلَيْنَا مِنْ أَلْفَاظِ مُعَقَّدَة وَلَا تُخْدَمُ الْمَعْنَى
كَفَاكُم تَظَاهَرَا وتفاخرا بِمَا تكتبون فَلَيْس قُوَّة الْأَدِيب بِقُوَّة اللَّفْظ التعجيزي الْغَيْر مَفْهُوم نُرِيد الِاسْتِمْتَاع والإمتاع وَالْإِقْنَاع

قد يعجبك ايضا
تعليقات