القاهرية
العالم بين يديك

ألم.. كبسولات قصصية

155

بقلم /رشا فوزي
دَخلت القاعة في كامل تبرّجها بثوب يكشف أكثر مما يخفي، وحقيبة صغيرة تحملها براحة يدها، وقد بلغت الليلة من الأثارة ذروتها.
تسير بخطى ثابتة مخترقة الجمع بتأنّي مدروس، وهي تشعر بكل الأعين الشرهة المصوبة تجاهها تجردها بعين الخيال من ثوبها الفاضح المثير.
جلست في مكانها المعتاد عند البار، وما إن رأها “البرمان” حتى قدم لها مشروبها المعتاد..
– bloody Mary!
جاءها الصوت من خلفها؛ لتلتفت وتجده منتصباً امامها بكامل فتنته وسحره، وقد زادته أعوامه الأربعين جاذبية فوق ما يمتلك.
– كل ليلة نفس المشروب، ألا تملين؟!
ابتسمت مجاملة وعادت لوضعها الأول معلنة عن عدم رغبتها في الصحبة، لكنه لم يهتم بذلك بل جلس إلى جوارها هامسا لها :
– أرى خلف هذا التبرج طفلة صغيرة، ما الذي يدفعك للمجئ لوكر الذئاب؟.
تطلعت في وجهه تتفحصه قبل أن تجيبه بهدوء :
– الملل! .. كما أني أبحث عن شيء!
– و ما هو؟!
– الألم!
اختلجت ملامحه بينما تعلقت عيناه بعينيها برهة، تلك البراءة التي تملؤها مشوبة بحزن تذكره بشخص ما،
لم يسمح للذكرى بالتملّك منه، فقط ذبحها بضحكة فاجرة تنضح سخرية وقسوة، ثم نهض من جانبها ليذوب وسط الزحام وبقايا ضحكته تتبعه، لتعود هي لمشروبها وحيدة .
عندما أنهته ألقت نظرة أخيرة على القاعة قبل أن تهم بالخروج، لتجده أمامها مره أخرى!
– هل وجدتِ ما تبحثين عنه؟!
أومأت رأسها بالنفي.
نظر لها يختبر صدق رغبتها وقوتها؛ فوجدها ثابتة العزم، وبدون كلمة جذبها من يدها لخارج القاعة ليستقلا عربته الفارهة، وما هي إلا دقائق حتى توقف أمام مبنى مهجور مهدّم.
نظر لها بشهوة ماجنة وهو يقول:
– لنرى لأي درجة سوف تتحملين الألم!
أجابته وهي تنظر إلى الفراغ الماثل أمامها:
– لي شرط، لا تبدأ قبل أعطاءك الأذن بذلك!
أومأ موافقا، ثم خرجا من العربة متجهين إلى المبنى المهجور .
دخل أولا، وتبعته هي، وعيناها تتجولان في المكان بسكونه المخيف وكآبته المشؤمة
التي يبدو أنها لم تزعجها على الأطلاق، حتي أدخلها حجره مهدمة ضيقة ومظلمة تتصدرها نافذة زجاجية صغيرة غبّرها تراب الزمن، تتراقص من خلفها أضواء المدينة من بعيد باهتة محتضرة.
و بينما هو يشعل شمعا لينير المكان، كانت هي تتجه لتلك النافذة تزيل عن زجاجها التراب وتنظر لما وراءها ثم تقول بشرود :
– المنظر من هنا خلاب!
هجم عليها كعاصفة هوجاء إلا إنها باغتته بالتفافها، وقد بخت على وجهه رذاذ بخاخة صغيرة مختبئة براحة يدها؛ شعر على أثرها بوجهه يحترق؛ فتعالى صراخه بينما هي أعقبتها بوخزة في عنقه بحقنة صغيرة تركتها معلقة بها، وأخذت تتأمله بهدوء وهو يصرخ بجنون من شدة الألم واضعا كلتا يديه على وجهه، إلا أنه تصلب فجأة وسقط أرضا عاجزا عن الحركة.
جثت بجانبه، وأزاحت يديه المتصلبتين عن وجهه تتأمل تشوهه وتتأكد من
بشاعته، ثم اقتربت من أذنه هامسة:
-أ ولم يكن بيننا اتفاق؟!
ورفعت رأسها لتنظر في عينية وهي تقول:
– ولكن منذ متى وأنت تحترم أي اتفاق أو تفّي بأي وعد؟
ثم نهضت من جانبه لتجلب من حقيبتها
زجاجة صغيرة حرصت على سكب كل ما فيها من سائل على الجسد المسجى أمامها بلا حراك إلا من مقلتين زاد جحوظهما عندما بلغت رائحة السائل النفّاذة إلى أنفه، بينما هي تقول بهدوء :
– وبما إنني دمرت مسبقا مصدر فخرك وغوايتك فأظنك لن تمانع!
ثم حملت شمعة مما يُضئ المكان ووضعته بتروي بجانبها، وهي تجلس إلى جواره ترقب الهلع يفيض من عينيه ليغرق ملامحه، شردت برهة لتقول من خلال شرودها بنبرة حزينة:
– لا تدّعي إنك لم تتذكرها !
ثم عادت لواقعها بابتسامة لا تخلو من حزن :
– من كان يصدق أن تكون نهايتك على يد ابنتك، يا أبي !
وجمت عيناه غير مصدق ثم نظر إليها لتومأ برأسها عدة مرات مؤكدة له صحة ما بلغ أذنه، و تتابع في حزم:
– و الآن، وداعا!
وفي لمح البصر ألقت عليه الشمعة لتلتهم النار جسده بينما يعجز هو حتى عن الصراخ.
انتظرت حتى أنهت النار عملها، وصارت دخانا يتصاعد وتتصاعد معه أشعة الشمس الأولى مبددة الظلام، تنبهها الى بداية فجر يوم جديد. توجهت إلى نافذة الغرفة الصغيرة لتستقبله بوجوم وهي تقول بصوت رتيب :
– حقا! المنظر من هنا خلاب ..يا أمي!

قد يعجبك ايضا
تعليقات