القاهرية
العالم بين يديك

الطرق خارج البلدة

111

بقلم/أحمد النحاس 

في الماضي البعيد، كنت صغيرًا بما يكفي لأفهم الحقيقة الكبيرة، حقيقة أبي والوجود، لم أكن أعرف وقتها مساحة العالم الشاسعة وحدود البلاد وحكامها، كانت خريطة الكون وقتها تتمثل في بلدتي الريفية الصغيرة بشوارعها الطينية وبيوتها القصيرة القامة ومآذنها التي كنت أتعجب دائمًا من وقوفها وحيدة طوال الوقت وكأنها تقوم على حراسة البلدة ليلًا وإرشاد أهلها إلى طريق الله، مخارج البلدة لم أكن أعرف إلى أين يذهب الخارجون منها ولا إلى أين يؤدي طريقها العمومي، أحيانًا وأثناء عودتي من المدرسة الابتدائية التي كانت بمثابة بيتي الثاني كنت أقف في منتصف الطريق الذي لم يكن يمر من خلاله سوى القليل من سيارات الأجرة من نوع ألترامكو على مسافات متباعدة من النهار وأنظر على طول المدى فلا أرى غير ارتخاء ستائر السماء على نهاية الطريق البعيدة والتي لم تكن سوى نهاية لمجال رؤيتي اللامحدودة، أشجار الكافور والكازورين على جانبيه يقفن بشموخ يوزعن الظل كأنهن يربتن على أكتاف المسافرين، كنت أفر عائدًا إلى المنزل حين أمر أمام شجرة الجميز العتيقة خوفًا من الجنيّة التي تجلس على أحد فروعها العالية وقت الظهيرة وتمشط شعرها المتدلي على الأرض حسب حكايات جدتي، لم أراها مرة في حياتي لكنني خفت بعدما رأيت جسدًا بلا رأس يقف خلف شباك المجزر يرتدي الكالح جدًا فوق الناصع جدًا مع رابطة عنق حمراء كاردينالية، لم أخبر أحدًا بهذه القصة، كنت أعرف أنه لا أحد سيصدقني.
بعدها بأيام عاد أبي من العمل، كان قد تخلف عن موعد إجازته أربعة أيام إضافية بعد شهر من الغياب، كنت قد افتقدته كثيرًا وقررت عدم مقابلته لغضبي من تأخره، كنت أحمق خبأت نفسي في غرفتي وجلست أستمع لصوته الذي جاء لبيتنا كالربيع، مع تكرار سؤاله عني وتردد أمي على غرفتي لأكثر من مرة تعنفني خلالها لعدم مقابلته، ذهبت رغمًا عني أتحسس الجدران في طريقي إليه، عندما اقتربت والتقت عيوننا المحملة بالشوق بكيت وبكى، قفزت في أحضانه كأرنب صغير، أخرج من جيبه ثلاث ورقات من العملة لا أتذكر من أي فئة كانت وقال وهو يمسح على رأسي غبت لأجل هذه وأشار بهن في وجهي، وقتها علمت أن جغرافيا بلدتي تشبه كثيرًا الجغرافيا في أحضان أبي، مات بعدها بأشهر قليلة، تركني صغيرًا على حافة الطريق، وحيدًا أرسم خريطة عالم جديد، بعدها عرفت الحقيقة، إلى أين تؤدي الطرق خارج البلدة.

قد يعجبك ايضا
تعليقات