كتبت /رشا فوزي
– لتدخل جنتي، وتنهل من شهدي، عليك بجلب الذهب لي من جبال الذهب !
قالتها بحزم وإصرار، نظرت لها مصدوما، وقد شعرت بقلبي الذي كان دوما ما يشتعل حبا وولها بها ينطفئ دفعة واحدة، مخلّفا برودة عارمة اجتاحت روحي فتبلدت.
– هذا يعني فراق لسنوات، وربما لا أعود.
خاطبتها واجما، أجابتني ببرود:
– فليكن!
اقتربت منها في هدوء، قابضا على إحدى جدائلها الذهبية، أتشمم عبيرها الذي طالما آسرني، بينما أنظر داخل عينيها، لأرى نفسي أصارع أمواج يم ثائر بلا شطآن؛ فقزفتها في وجهها هازئا :
– لا تستحقين المجازفة!
غادرت الحانة التي كانت تجمعنا مخلفّها ورائي، تلجمها المفاجأة يحرقها الغضب، بينما أستقبل نسمات الليل الباردة بغصة في قلبي، وخواء يملأ كياني.
في الصباح حسمت أمري، وحزمت حقيبتي قاصدا جبال الذهب، كنت كمن يلقي بنفسه في غياهب المجهول بغية الانتحار.
أعلم أول ما سيصادفني،
غابة الغروب؛ حيث كل ما بها ملوّن بلون ذهبي مائل للحمرة، وهذا بفعل جنيتها “صهباء” عازفة الأوتار، تلك الشيطانة الفاتنة بشعرها الناري، بشرتها العاجية، وعينيها الزرقاء، تسكن باطن أرض الغابة وتأسر كل من يفكر في عبورها بعزفها الشجي الساحر الخلاب، حتى يصير عبدا لها؛ لتأخذه معها تحت الأرض.
يقولون إنها تعزف بكمانها المسحور على أوتار القلب مثيرة شجونه ممزقة نياطه، حتى تنهار مقاومة ضحيتها فتستسلم لها دون قيد أو شرط!
دخلت الغابة مستهينا بكل ما أعرفه عن مخاطر عبورها؛ أصلا أنا جسد ميت بلا قلب، فعلى أي أوتار ستعزف، وأي نياط ستمزق، لا يوجد ما أخشى عليه!
إلا إنني ما إن سرت بضع خطوات، حتى ترامى إلى مسامعي صوت عزف غاية في العذوبة والشجن، يأخذ بتلابيب القلب والعقل معا؛ فتسمّرت مكاني يغمرني صوت موسيقاها ولون الغروب من كل جانب، لأكتشف أن قلبي مازال نابضا بالحياة داخل صدري، يشعر ويتألم، وقد تمثلت الجنية أمامي فجأة! منهمكة في عزفها،
غير مبالية بوجودي، وكلما زادت عذوبة عزفها؛ زاد وجع قلبي حتى أصبحت لا أقوى على احتماله، فصرخت من شدة الألم صرخة مدوية اهتزت لها أرجاء الغابة، باسطا ذراعي للاشيء، في حين اغرورقت عيناي بالدموع، لتفر إحداها رغما عني، بينما أسقط أرضا جاثيا على ركبتي.
اقتربت مني الجنية، وقد أذهلتها قوة صرختي التي أنبأتها عن حجم فجيعتي، أمسكت رأسي بكلتا يديها تنظر داخل عينيّ؛ لتسبر أغوار نفسي، بينما أرى أنا البحر الساكن عينيها، وأرى على شاطئه حبيبتي، أداعب جدائلها الذهبية بأناملي، ونحن نتبادل عهود الحب الأبدي، ثم ننهل من خمر الشفاه حتى الثمالة.
– كم هي خادعة ذات الجدائل الذهبية!
قلتها بمرارة وحسرة مستسلما لمصيري بين يدي الجنية، قبل أن يغشى عليّ.
استيقظت لأجدني قد عبرت غابة الغروب، وقد صارت خلفي، كيف؟!
تلفت حولي باحثا عن إجابة، حتي اصطدمت بالجنية “صهباء” عازفة الأوتار، وقد وقفت بين الأشجار عند حافة الغابة، وهي ترقبني بابتسامة لعوب!
اقتربت منها ملقيا السلام، وقد أدركت أنها مَن عبرت بي، إلا إنها نهتني عن ذلك قائلة:
– لا تقترب، إلا إذا كنت ترغب في أن تكون لي وأكون لك، حينها سأجعل هذا العالم كله ملك يمينك.
ثم بنبرة إغواء مدعومة بفتنتها وسحرها:
– أهبط معي وكن سيدا على قلبي!
وجدتني أقول لها بعفوية:
– ليت لي سلطان على ذلك الأحمق المسمى قلبي!
ثم انحنيت لها احتراما، وعلى وجهي ارتسمت ابتسامة ودودة، وعندما اعتدلت، كانت هي قد اختفت !
سرت في طريقي أفكر في خطوتي المقبلة،
صحراء ساكني الأعالي الذهبية،
يقولون أنها صحراء جرداء، خلت من كل ألوان الحياة إلا اللون الأصفر، لون رمالها الممتدة بمساحات شاسعة، وساكنو الأعالي؛ تلك الكائنات القادمة من السماء منذ عهد سحيق، لتهبط على الأرض ساكنة قمم جبالها القائمة في الصحراء، معتزلة البشر، صارمة في هذا الاعتزال، لا تقترب منهم، ولا تسمح لهم بالاقتراب منها؛ لذلك كُتِبَ على كل من يحاول اجتياز صحراءها من جنس البشر أن يدفن في رمالها الصفراء!
يقولون أيضا إنها عندما هبطت للأرض كانت كائنات شفافة نورانية، إلا إنها بمرور الوقت استحال جسدها ليشبه أجساد البشر، ولم يتبق لها من حالتها النورانية الشفافة سوى أجنحتها التي تحلق بها في أعالي السماء.
وبعد تجربتي مع غابة الغروب والجنية “صهباء”، أدركت أن قلبي، ذلك الخائن، لا يزال متعلقا بتلك الغادرة عاشقة الذهب؛ لذلك أقبلت على صحراء ساكني الأعالي بوجه بشوش، مرحب بمصير الموت المحتوم؛ نكاية في ذلك القلب الأحمق!
لم آبه لصمت الموت الذي يملأ أرجائها، ولا إلى نفاذ أسباب الحياة مني من طعام وشراب، تمسكت ببشاشتي وأنا ألاحق أنفاسي الأخيرة، وبينما أعاني سكرات الموت استعدادا للذهاب لعالم يخلو منها أخيرا، إذ بي أجدها أمامي!، مقبلة عليّ، تضمني في حنو بالغ، تداعب جدائلها ملامح وجهي، بينما تتراقص صورتها هُلامية أمام عيني، وهي تسألني مداعبة:
– ما أكثر شيء تحبه فيّ؟!
أجبتها من فوري:
– جدائلك الذهبية .
وجمَت ولاذت بالصمت، ليغرق كل شيء في الظلام.
عندما انقشع ظلامي وفتحت عيني، أستقبلت جمال لم أر في براءته، وبراءة لم أشاهد في جمالها من قبل، كانت تنظر لي بأعين واسعة يملأها فضول، بينما الليل المنسدل بحريرية على كتفيها محيطا بشرتها العاجية البراقة كالبلور يصدر حفيفا مع كل حركة تند عنها، كأنها وشوشة الملائكة!
أخذت أحملق مدهوشا في تلك الفتاة التي جمعت ملامحها بين ليلة وضُحاها في تناغم خلاب، بينما قابلت هي اندهاشي باندهاش أكبر، سرعان ما تحول إلى ارتباك وشعور بالخجل، قاطعه بغتةً صوت ذكورى كأنه هزيم الرعد؛ انخلع له قلبينا لننظر معا نحوه مفزوعين!
– هاميس!
لأرى كائنا ضخما مقبلا علينا، وكأنه تمثال لأحد الفراعين المصريين دبت فيه الروح؛ فخرج من معبده يسعى!
وكان بجواره كائن آخر أقل حجما – في حجم هاميس تقريبا – أشار له بيده؛ جعله يلتزم الصمت ويثبت في مكانه، بينما تابع هو التقدم نحوي، لأكتشف أنه امرأة تكاد تكون نسخة عن هاميس، إلا إن الزمن قد قام بتعديلاته عليها؛ فعلمت أنها الأكبر سنا، وعندما اقتربت مني، تأملت وجهي برهه، ثم ابتدرتني :
– ما الذي يجعلك تسعى للموت مبتسما؟!
أجبتها بمرارة، وقد قفزت صورة ذات الجدائل الذهبية إلى مخيلتي:
– لأنني أخيرا سأستطيع الإفلات من براثنها، تلك المخادعة عاشقة الذهب!
نظرت لي كبيرتهم بدهشة، وهي تسألني:
– أ ولم يكن بوسعك فعل ذلك وأنت في بلدك، أم أنك لم تستطيع سوى اتباع قلبك؛ فتجلب لمعشوقتك ما تشتهي رغما عن عقلك وتوبيخه لك؟!
أذهلني كلامها، وقبل محاولتي الاعتراض عليه ونفيه، وجدتها تتابع شاردة في الفراغ :
-عجبا لذلك الشعور المسمى بالحب، هو في البشر قوتهم الخارقة ونقطة ضعفهم، هو أجنحتهم التي يعبرون بها أراضي المستحيل محلقين، أو أصفادهم المذيلة بأحجار تهوى بهم إلى أسفل سافلين!
صمتت، وغرقتُ أنا فيما قالت، تتردد أصداءه داخل خواءي فتملأه،
إلا أن الضخم قطع عليّ تأملاتي بصوته الجهوري، سائلا كبيرتهم :
– والآن مولاتي، أنقوم بدفنه؟
ابتسمت بحنوّ، وهي تربت على كتفه قائلة :
– بل دعه يذهب !
ثم توجهت للفتاة :
– هاميس، ساعديه ليبلغ جبال الذهب!
كانت الفتاة في ذلك الوقت مطأطأة الرأس شبه منحنية؛ احتراما لمليكتها، ثم اعتدلت فور انصراف الملكة والضخم .
اقتربت مني بخجل وارتباك، تنظر إلى الأرض وهي تسألني إذ كنت أرغب في الرحيل الآن؟
فأجبت مأخوذا بجمالها وبراءتها :
-نعم !
رفعت عينيها بحذر إلى عيني، لتلمح نظرة الأعجاب تطوف بهما في حرية، مما شجعها أن تقول بصوت خفيض متردد وهي تغالب خجلها، وقد توردت وجنتيها العاجيتين، بينما عادت عيناها تنظر إلى الأرض :
-إذا شئت تستطيع البقاء معي هنا في الأعالي، وتكن سيدا على قلبي!
هممت بالموافقة، لكن غصة في قلبي، وذكرى لمعشوقتي من عهد خلا، وقفت بيني وبين ذلك، ووجدتني أقول بحسرة :
– وما حيلتي في ذلك الأحمق المسمى قلبي!
وما هي إلا لمحة بصر، أو ومضة خاطفة،
وجدتني بعدها أقف على أرض صخرية في مكان مفتوح يغمره ضياء الشمس، بينما هاميس تحلق مبتعدة في كبد السماء، أخذت أتابعها حتى اختفت، ثم تلفت حولي أستكشف أين أنا .
ذُهِلت! عندما ادركت أني ببساطة أقف عند سفح جبال الذهب، التي لمعت في ضياء الشمس ببريق أصفر آخاذ، يكاد يعمي الأبصار، وتسألت في نفسي :
– ألم يكن في وسع هاميس وضعي على القمة بدلا من تركِ عند السفح؟!
استعنت بالله، وبدأت الصعود بمشقة بالغة وعناء، وما كدت أصل للقمة، حتى استقبلتني فتيات بلون ذهبي!
صدقا، ذهبيات اللون من قمة رأسهن حتى أخمص أقدامهن، وقد أمسكن بي ودون أن ينطقن ببنت شفة، أجلسوني على عرش ذهبي، ثم بدأن في الصفير والرقص حولي متمايلات ذات اليمين وذات اليسار، كجدائل حبيبتي عندما تلهو بها الرياح العابثة، وفي غمرة الذكرى وجدتني أصدح بينهن بمرارة:
-هاك عرش جبال الذهب !
إنه لكِ ،خذيه، وأعيدي إليّ عرش قلبي؛
فأنتِ لا تستحقينه أيتها الغادرة.
هنا ترامت إلى مسامعي صوت غناء ألفه جيدا! حملته الرياح من مكان بعيد، تلفت حولي غير مصدق، لأرى فتيات الذهب يقفن صفا كتماثيل، مشيرات للجهة الأخرى خلف جبال الذهب! اقتربت بحرص منهن، ونظرت محملقا حيث يشيرن، فإذ بهن يدفعننِ بقوة وسط ضحكاتهن؛ لأسقط هاويا من القمه إلى السفح، وقد غار قلبي بداخلي؛ ظنا مني أن تلك هي النهاية!
إلا أن الريح حملتني بين أحضانها كطفل رضيع !، وهبطت بي برفق أمام واحة غناء فاتنة تتوسطها بحيرة رقراقة، قد جلست على ضفافها قاتلتي ذات الجدائل الذهبية، بينما تغسل شعرها وهي تغني بصفاء تُحسد عليه!
ظللت محملقا فيها برهة، غير مصدقا لما أرى، أهي حبيبتي فعلا؟!، تلك المخادعة التي أعشقها، وتعشق هي الذهب؟!، أم هي وهم في خيالي؟!!
-أأنتِ هي؟!!
ولكن كيف؟!!
حانت منها التفاتة، وابتسمت إليّ ابتسامة ذات مغزى، وكأنها تعلم بوجودي، وبكل ما مررت به، ثم عادت للغناء ببساطة، تجفف شعرها وتجدله بسرعة ومهارة!
أستشط غضبا، وغلى الدم في عروقي، هرولت صوبها جذابا إياها من جلستها في عنف؛ لأصب عليها جام غضبي، إلا أنها استقبلت غضبي بدلالها ضاحكة ضحكتها الأثيرة إلى قلبي، فكانت كهطول المطر على نار مشتعلة فأطفأتها، وصرت كالطفل بين يديها أعاتبها :
– ولمَ كان كل هذا؟!
هنا نظرت لي بثبات، نظرة جد لا هزل فيها، بينما تقول:
– وجدتك أحببت فيّ متغيرا غير دائم، وأحببت فيك دائم أردت التأكد من إنه لن يتغير!
– ما هذا العبث، أيتها الغبية ؟!
ساكنة القلب والروح انتِ، ألا تدركين؟!
فأين المفر منكِ بنت حواء؟!
ثم جذبتها إلى صدري واحتويتها بين ذراعيّ أنهل من عبيرها الخلاب، دافنا رأسي في جدائلها الذهبية التي طالما آسرتني !
في حين تعود هي إلى توجّس نفسها الأزلي:
– وماذا سيحدث عندما يستحيل ذهبي فضة؟!