القاهرية
العالم بين يديك

قصة قصيرة/ فقدت توأمي

162

بقلم: شروق صالح

“ها قد شارفتِ على الظهور لكنك مازلت غائبة في قلبي..
ثمة ليلة من بين كل الليالي التي عشتها هي من غيرت تاريخ حياتي أظل واقفة هنا قائلةً ياليت الشمس لا تشرق البته فهي لا تكفي لإضاءة هذا الجرح العميق في قلبي، الجرح الذي تحول لنقطة سوداء تحطمني كل لحظة، جعلتني فاقدة للحياة.”
كلماتٌ حاملةٌ معانٍ كثيرة خرجت من بين شفتي تلك الفتاة ذات الشعر الطويل الذهبي كأشعة الشمس، يتمايل مع النسيم ليلتصق بوجهها بسبب دموعها التي كانت تذرفها بألم وهي تغمض عينيها كما لو كانت تُناشد ذكرى مؤلمة متنهدة محدثة نفسها
“توقف الوقت أمامك أيها البرج العظيم الذي يأتي إليك جميع السياح من أنحاء العالم وكذلك العشاق لكن أصبحت يا إيفل وصمة حزن لدي..
أزورك لرثاء حالي والبكاء بجوارك، للأسف كنت الوحيد الشاهد على جريمتي.”

وصل إلى مسامعها صوت خافت من خلفها قائلاً “لم أتوقع أنكِ مازلتِ تأتين إلى هنا يا روزين بالرغم من مضي كل ذلك الوقت!”

اتسعت عيناها مستديرة بسرعة قائلة: “مستحيل، كيف يمكن هذا؟!”

قابلها بابتسامة ساخرة قائلاً: “ألا تؤمنين بالمعجزات؟” ثم استدار راكضاً مختفياً بين طيات الطريق وسط الزحام وهي صارخة باسمه”أرجوك توقف… لا تذهب… أنت لم تمت؟!”
سقطت على ركبتيها أثناء محاولتها اللحاق به بعد أن فشلت في ذلك، وضعت يدها على رأسها والجنون يسيطر على تفكيرها قائلةً: “كيف.. كيف هذا؟ سأجن ماذا يحدث؟ هل من المفترض أن أسعد بعودته أم أحزن؟! أخاف أم أشعر بالأمان؟!”
نهضت وقادت دراجتها بسرعة جنونية وهي تنظر بالوجوه حولها متمنية رؤيتة مجدداً حتى تثبت لنفسها أنها لم تجن.
فور وصولها لمنزل ضخم ذو طراز فرنسي ركضت مسرعة للداخل وبالأخص في ذلك الرواق الطويل ذو الغرف الكثيرة، فتحت إحداها صارخةً “هنري استيقظ.. آرثر لازال على قيد الحياة.”
نهض أخاها مفزوعاً والذي كان يشبهها في الملامح لكنه يكبرها عمراً قائلاً بتوتر: “أجننتي أم أنك تسيرين أثناء نومك؟”
أشعلت الضوء قائلة “أنظر لوجهي هل أبدو نائمة؟ اسمعني جيداً.. آرثر لم يمت لا أعرف كيف!! فلنبحث عنه أرجوك”
اعتدل في جلسته ناظراً لها بقلق واضعاً يده على جبينها “إن لم تكونِ نائمة فبِكل تأكيد حرارتكِ مرتفعة”
أبعدتها بغضب “لما لا تصدقني؟”

قاطعها بعصبية “أصدق ماذا؟ هل أصدق أن آرثر الذي مات مازال على قيد الحياة؟! أم أن الجثة لم تكن جثته؟! ”

نهضت غاضبةً “سأبحث عنه وسأجده”. قالتها بإصرار وهي تتحرك مبتعدة.
تبعها وأوقفها قائلاً: “اجلسي بمفردك ونشطي ذاكرتك قليلاً فأنا لا أريد العودة لنقطة الصفر مرة أخرى”.
صمت للحظات قبل أن يكمل بحنان مترجياً “أرجوك”.

كانت نظراتها تشع غضباً وحزناً في آنٍ واحدٍ غادرت متجهة لغرفتها وقفت في شرفتها ناظرة للسماء تتذكر ما حدث…
………………..
“لا.. لا.. فليساعدني أحدهم”.
خرجت من بين شفتي روزين والدماء تسيل من فمها، مستلقية أرضاً تحاول جاهدةً الإقتراب زحفاً من ذلك الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة وهو غارقاً في دمائه أمام برج إيفل وسط هذه الليلة شديدة البرودة والأمطار المنهمرة لتندمج مع سيلان الدماء ملوثةً الطريق، ثم اتسعت عيناها وهي ترى شاب في مثل عمرها يقف أمام الطفل مبتسماً بدفء فتقول: “كيف هذا؟ ماذا يحدث هنا؟ الطفل وأنت معاً في آنٍ واحد!!”

حاولت النهوض وهي ترتجف والدموع تنهمر من عينيها قائلةً: “آرثر.. انتظر لا تذهب أرجوك”.
موجهةً كلماتها لذلك الشاب الذي غادر تاركاً الطفل ملقى أرضاً.

استيقظت فجأة شاهقة من حلمها وقد ملأت الدموع وجهها وهي تتصبب عرقاً في غرفة بيضاء وصوت الأجهزة يملأ أذنيها ناظرةً ليدها المتصلة بمحلول وأسلاك كثيرة.
صرخت بصوت مرتفع “آرثر أين أنت؟”
حاولت نزع الأسلاك عنها ونهضت وهي تشعر بالدوار وسقطت أرضاً.
سمعها هنري فدخل مسرعاً بلهفة “لما نهضتِ يا روزين؟” ضغط على زراً مستدعياً طبيباً وهو يساعدها على النهوض، دفعته صارخةً “أين هو؟ أين آرثر؟”
لم يجبها صرخت قائلةً: “ابتعد عني سأجده، سأجده يا هنري، إنه في إحدى الغرف بالتأكيد”

كانت كلماتها تخرج بصعوبة وكذلك النفس، أجلسها على السرير بقوة قائلاً “لم يتحمل وغادر”.

“أنت تكذب إنه لن يتركني البته”
ثم دفعته بقوة.

دخلت الممرضة مع الطبيب…
الطبيب “إلى الخارج سيد هنري”

نظر إليها بحزن ثم غادر ليعطيها الطبيب مهدئاً.

في الخارج..
تنهد هنري قائلاً “إلى متى سنظل نعاني هكذا؟ إلى متى ستظل أسيرة ذلك الفراش اللعين؟ هل سأستطيع حمايتها كما فعلت قديماً؟ أسئلة كثيرة تلتهم رأسي ولا أعرف إجابة لها”

خرج الطبيب قائلاً “آسف مضطر لإستدعاء طبيب نفسي، فالأمر خرج عن السيطرة”

هنري بصراخ “انسى الأمر وإلا أخرجتها من المشفى في الحال”

الطبيب بغضب محاولاً تمالك أعصابه “سيد هنري لا تتحدث معي كالجهلة إنها تعاني وتحتاج لطبيب متخصص”

هنري”قلت لك انسى الأمر”

غادر الطبيب متمتماً بكلماتٍ غير مفهومة.

في تمام الساعة الرابعة فجراً استيقظت روزين وعينيها مشوشتين من تأثير المهدأ،
الهدوء الظاهري هو المسيطر عليها لكن داخلها بركان ثائر فتقول: “يرفضان تصديق هذا ومن منهما يستطيع ذلك! أهو قلبي الذي ذاب عشقاً؟ أم عقلي الذي اتخذه عائلتي منذ نعومة أظافرنا..
ماذا عساي أفعل؟
ليتقبلا هذه الحقيقة المُرَّة.. أأقتل نفسي لأقابله؟! لكن لحظة أنا هنا بسبب محاولتي لذلك”
تنهدت محاولةً الجلوس على السرير، أمسكت دفتراً بجوارها وبدأت بكتابة أحزانها قائلةً:”لا أجد سواك يا دفتري لمشاركتي آلامي ووحدتي فبرغم كل من حولي إلا أن وجودهم عديم الفائدة.
أعلم أن هنري يتألم لأجلي لكنه لا يفهمني هو فقط حزين عليّ أو لا أعرف.. حقاً أنا تائهة ومشوشة”
أغلقت دفترها لتشاهد شروق الشمس وضوؤها يخترقان غرفتها، ابتسمت بسخرية.

لحظات ودخل هنري الغرفة قائلاً “وأخيراً استيقظت يا روزين.”

نظرت بحزن قائلةً “أريدك أن تصطحبني لقبره”

“هل أفهم من هذا أنكِ صدقتي أخيراً؟”

حاولت الإبتسام مخفيةً حزنها قائلةً: “لن أصدق إلا عندما أراه، لا فائدة من مكوثي هنا وهو في الخارج، على الأقل لأزوره في مسكنه الجديد”.

أشار بالموافقة قائلاً: “تجهزي ريثما أدفع حساب المشفى”
ثم غادر ونهضت هي لتستعد.
بعد نصف ساعة عاد هنري واصطحبها، كانت تسير بجواره صامتة لكن عقلها لا يكف عن الحديث “ها أنا ذا لأول مرة منذ أشهر أخطو أولى خطواتي خارج تلك الغرفة اللعينة بعيدة عن روائح المعقمات وأصوات الأجهزة.
سألتُ نفسي كيف سأشعر فور مغادرتي المشفى لكن يا لسخرية القدر لم أشعر بشيء سوى بتغير الرائحة لرائحة تراب والضوضاء تَعُمُّ المكان”

قاطعها هنري قائلاً “لا تفكري كثيراً ”

روزين “لما لا أفكر؟ ألا أفكر في توأم روحي؟ التوأم الذي قتلته بيداي”

هنري بغضب “كفاك هراء”

روزين بسخرية “هراء! أضحكتني، لذا لنصمت كي لا نتشاجر”

ها قد وصلا لمكان به الكثير من الأضرحة سارا حتى وصلا لضريح مكتوب عليه (آرثر فيليب).
اتسعت عيناها فور رؤيتها للقبر والدموع ترقرقت فيهما متراجعةً بقدميها للخلف صارخةً مسافرة بعقلها وقلبها لليلة الحادث…
في تلك الليلة الشنعاء كان الجو ممطر والرياح شديدة وقد حذرت الأرصاد من الخروج لكن هناك مجنونين يعشقان هذا الطقس..
كانت روزين تجلس في حديقة القصر والملل يسيطر عليها لتتفاجأ برنين هاتفها فتجيب بسعادة “آرثر! ”
“سأَمُر لأصطحبك فالجو الآن غاية في الروعة”

نهضت وما من دقائق لتسمع صوت سيارته في الخارج خرجت مسرعة والسعادة تغمرها
قائلة:” أرجوك إسمح لي بقيادة السيارة فكما تعلم أخي لا يسمح لي بذلك”

” لا.. الطرق منزلقة الآن”

“أرجوك”

“حسناً”

ركبت لتقودها إلا أنها كانت تقود بسرعة جنونية،
إلى أن اقتربا من برج إيفل فقال لها:” هدئي السرعة قليلاً وإلا سنفقد حياتنا”

” لا.. فالأمر ممتع جداً، المطر يبللنا والهواء يرتطم بوجهينا”

فجأة عند المنعطف أرادت الضغط على المكابح لكنها تعطلت أصيبت بالذعر وبدأت بالصراخ حاول آرثر إيقاف السيارة بمكابح اليد لكن السيارة انقلبت وطار آرثر بعيداً أسفل البرج أما روزين فبمقربة من السيارة، حاولت الزحف إليه والدماء تسيل منها لكن خانتها قواها ولم تستطع الوصول في الوقت المناسب وملأ صوت صراخها المكان، ومنذ ذلك اليوم وهي لا تجرؤ على قيادة السيارات.
……………….

استفاقت من تذكرها بضربات قلب متسارعة ونفس مضطرب محدثة نفسها “هدئي من روعك لقد عاد آرثر ولن يزورك كطفل أو كشاب في أحلامك بعد الآن”

خرجت مسرعة وقد شارف النهار على الظهور متجهة للقبر عازمة على فتحه لكشف كذبة موته التي أخبروها بها في المشفى، فهي لم ترى جثته؛ لذا قررت البحث بنفسها، ربما أراد أخوها أن يفرق بينهما بسبب الفارق الطبقي!! فهو لم يحبه يوما! ثم إنها متأكدة أنها لمحته ذلك اليوم!! لا يمكن أن يكون قد خُيل لها هذا!! ربما طلب منه الإبتعاد عنها لمصلحتها، لا تستبعد ذلك، كاد عقلها يحترق من الشك والتفكير، الشعور بالذنب الرهيب يضغط على روحها.
عند وصولها للضريح وقفت مترددة.
نظرت أمامها فإذا بها تلمحه مجدداً بين الأشجار ” آرثر !! انتظرني” قالتها بلوعة قبل أن تركض باتجاهه مسرعة، لكنه اختفى عن أنظارها مجدداً!!
من فرط إصرارها للإمساك به أصبحت تركض كأنها في ماراثون وبالفعل لحقت به تلك المرة وأمسكته من قميصه وتشبثت به كي تتأكد أنها لا تحلم، سقط أرضاً وسقطت فوقه واحتضنته بقوة، لكنه لم يبادلها ذلك ودفعها بعيداً ليجلس أرضاً وتجلس مقابلةً له قائلاً لها” لا أدري أأفرح لأنكِ مازلت تحملين كل هذا الحب له أم أبكي على حالك؟”

نظرت والصدمة تعلوها “آرثر أنت لم تمت!! لِمَ تبعدني عنك!! هل قسى قلبك كل ذلك الوقت عن الغفران لي لتعذبني بتلك الطريقة؟! هلا سامحتني أرجوك؟”

ابتسم بحزن ثم سحبها من يديها عائداً بها ليقفا أمام الضريح قائلاً:” هل أنتِ مستعدة لسماع الحكاية؟”

” دائماً مستعدة لسماعك ولا أستطيع وصف مدى سعادتي لعودتك، أين كنت طيلة هذه المدة؟! ”

تنهد ناظراً للقبر” لا أدري أكنت أنا المحظوظ أم هو!
لم أعلم بوجوده إلا قبل وفاته بأشهر قليلة.
نظرت له بعدم فهم قبل أن يكمل قائلاً:
أنا توأمه..تبنتني إحدى الأُسر فور إيداعنا دار الأيتام بينما ظل هو بتلك الدار، عشت عيشة مرفهة لكني دائماً ما كنت أشعر بأن شيء ما ينقصني، علمت بعدها أنني لست ابنهم..بحثت عن عائلتي وحينها علمت بأمر آرثر أصبحنا صديقين، حدثني كثيراً عنك لكني رفضت التعرف عليك وطلبت منه ألا يحكي لكِ عني، في الحقيقة شعرت بالغيرة لصداقتكما فعلى الرغم من أنه قص عليَّ حكايتك بأن عائلتك الحقيقية وجدتك بعدما تم اختطافك من قِبل أعداء والدك ولم تكونِ قد تجاوزتي العام ووضعوكِ في دار الأيتام، فيبدو أن قلوبهم قد رقَّت بعدها ولم يستطيعوا قتلك وأخبروا عائلتك بأن يبحثوا عنك!
عند بلوغك سن العاشرة عثُرت عليكِ عائلتك وانتقلتِ للعيش معهم إلا أنكِ لم تنقطعِ عن الإلتقاء به وكنتِ مصرةً بشدة كي تظلي على اتصالك الدائم به.
أتدرين؟ يوم وفاته كان سيعترف لكِ بحبه لكنه كان يشعر بأن شيئاً ما سيحدث وطلب مني الإعتناء بكِ ولكني رفضت.
لا أنكر أني طيلة الفترة الماضية كنت أُحَمِّلكِ ذنب وفاته وبالرغم من ذلك لم أستطع الإنتقام منك!! بل وجدت نفسي أراقبك عن بعد كي اعتني بك كما طلب مني!! واكتشفت وقتها كم أنتِ محطمة وتعشقينه بجنون، وشعرت بأن انتقامي سيعذب آرثر ”
ثم نظر للضريح متنهداً قبل أن يقول بصوت تملؤه المشاعر المتضاربة” الآن قررت تحقيق طلبك يا توأمي، ها هي روزين بجواري ومن اليوم سأصبح أخاً لها فَكِلينا فَقَدَ توأمه.”
كانت دموعها تنهمر وهي تستمع لحديثه مسحت دموعها محدثة الضريح هي الأخرى قائلةً: “لن أبكي بعد اليوم يا آرثر وسأتحمل فراقك وأعدك بأنني يا توأم روحي وعمري سأكون قوية كي لا تقلق عليّ، نعم لقد فقدت توأمي ولكني وجدت توأمك وسيعتني كلانا بالأخر من أجلك”
……تمت……

قد يعجبك ايضا
تعليقات