القاهرية
العالم بين يديك

جميل وبثينة) حُبٌّ ذُرِفتْ عليه الدموعُ .. سلسلة حلقات

99

بقلم / حمادة توفيق

(الثالثة)
يقولُ سهلُ بن سعد الساعدي (أو ابنه عبّاس) : لقيني رجلٌ من أصحابي، فقال : هل لكَ في جميلٍ فإنهُ ثقيل ؟
فدخلنا عليه وهو يكيدُ بنفسه وما يخيّل إليّ أن الموتَ يكرثُه (يشتدُّ عليه)، فقال : ما تقولُ في رجلٍ لم يزنِ قطُّ، ولم يشرب خمرًا قطُّ، ولم يقتُل نفسًا حرامًا قطُّ، يشهدُ أن لا إله إلا الله ؟
فقلتُ : أظنُّه والله قد نجا، فمن هذا الرجل ؟ قال: أنا.
قلتُ : واللهِ ما سلمتَ (يُريد من الزنا) وأنت منذ عشرين سنة تنسب ببثينة !!
فقال : إنّي لفي آخرِ يومٍ من أيّام الدُّنيا، وأوّل يوم من أيام الآخرة، فلا نالتني شفاعةُ محمد صلى الله عليه وسلم إن كنتُ وضعتُ يدي عليها لريبةٍ قطُّ.
قال : فأقمنا حتى مات.
وهكذا مات جميل ومات معه حبه ولكن يظلُّ شعره ينبضُ بالحياةِ ويروي لنا قصةَ عاشقٍ :
لَقَد ذَرَفَت عَيني وَطالَ سُفوحُها ..
وَأَصبَحَ مِن نَفسي سَقيماً صَحيحُها !
أَلا لَيتَنا نَحيا جَميعاً وَإِن نَمُت ..
يُجاوِرُ في المَوتى ضَريحي ضَريحُها !
فَما أَنا في طولِ الحَياةِ بِراغِبٍ ..
إِذا قيلَ قَد سوّي عَلَيها صَفيحُها !
أَظَلُّ نَهاري مُستَهاماً وَيَلتَقي ..
مَعَ اللَيلِ روحي في المَنامِ وَروحُها !
فَهَل لِيَ في كِتمانِ حُبِّيَ راحَةٌ ..
وَهَل تَنفَعَنّي بَوحَةٌ لَو أَبوحُها !
لما بلغَ بثينةَ خبرُ موتهِ حزنت عليه حزنا شديداً وأنشدت :
وإنّ ســلوي عــن جـميل لسـاعةٌ ..
مـنَ الدهـرِ مـا حانت ولا حانَ حينها !
سـواءٌ علينـا يـا جـميلُ بـنُ معمرٍ ..
إذا مــتَّ بأســاءُ الحيــاةِ ولينهـا !
وكان يقولُ في وعدها بالتلاقي وتأخرها أيضاً في قصيدةٍ رائيةٍ رائعةٍ أولها :
يا صاح عن بعض الملامة أقصرِ ..
إن المنى للقاءُ أم الـمـسـورِ !
ومنها :
وكأن طارقها على علل الكرى ..
والنجم وهناً قد دنا لتـغـورِ !
يستافُ ريحَ مدامةٍ معـجـونةٍ ..
بذكيِّ مسكٍ أو سحيقِ العنبرِ !
ومنها :
إني لأحفظُ غيبكم ويسـرنـي ..
إذ تذكرينَ بصالحٍ أن تُذكري !
ويكونُ يومٌ لا أرى لك مرسلاً ..
أو نلتقي فيه عليّ كأشـهـرِ !
يا ليتني ألقى المنـية بـغـتةً ..
إن كان يومُ لقائكمْ لـم يُقـدَّرِ !
أو أستطيعُ تجلداً عن ذكركـمْ ..
فيفيقُ بعضُ صبابتي وتفكري !
لو قد تُجنُّ كما أجنُّ من الهـوى ..
لعذرتُ أو لظلمتُ إن لم تعذري !
واللهِ ما للقلبِ من عـلـمٍ بـهـا ..
غيرَ الظنونِ وغيرَ قولِ المخبرِ !
لا تحسبي أني هجرتك طـائعـاً ..
حدثٌ لعمركِ رائعٌ أن تُهجري !
فلتبكني الـبـاكـياتُ وإن أبـح ..
يوما بسركِ معلنـاً لـم أُعـذرِ !
يهواكِ ما عشتُ الفؤادُ فإن أمـتْ ..
يتبعُ صداي صداكِ بين الأقبـرِ !
إني إليكِ بما وعدتُ لـنـاظـرٌ ..
نظرَ الفقيرِ على الغنيِّ المكثرِ !
يعدُّ الديونَ وليس ينجزُ مـوعـداً ..
هذا الغريمُ لنا وليس بمعـسـرِ !
ما أنتِ والوعدُ الذي تعـدينـنـي ..
إلا كبرقِ سحابةٍ لـم يُمـطـرِ !
قلبي نصحتُ له فردَّ نصيحـتـي ..
فمتى هجرتيهِ فمنه تكـثـري !
#يُتبع

قد يعجبك ايضا
تعليقات